مكاشفات نقدية.. ومقاربات تأملية
(1) … مريض أصيب بالحمَّى الطويلة الممتدة في سراديب الأوردة والشرايين، التي أسقطت يعقوب في أتونها، فاختلط مسارها وتسربها بأوهام وحكايات كثيرة، إن الحمَّى لوحت شرقاً وغرباً وجعلته في حالة هذيان عجيب.. (الرواية ص243).
هذا المريض المحموم، الغائب عن الوعي، والذي يهذي بكلام يختلط فيه الوهم بالحقائق، والسرد الذاتي بالحكايات، قُيِّض له سكرتيرٌ يقظٌ كان يقوم بتدوين كل ما يتفوه به هذا المريض الغائب عن الوعي، طوال اليوم، ثم يسلمه للزوجة (فضيلة) والأبناء (راشد، سعود، زيد) الذين يجتمعون كل مساء، لترتيب هذه الحكايات والكلمات والهذيانات القولية “فقررت الزوجة إخراجها في كتاب جامع عن حبيبها الذي أخلصت له، وأخلص لها منذ اللحظة الأولى لبدء حياتهما..” ص244.
(فضيلة) – الزوجة – ليس لها وعي كتابي، ولا تملك فن السرد القصصي والروائي، ولكنها معلمة، متدينة، وجدت أمامها ملفات وأضابير من الحكايات والهذيانات التي تسرد حياة المريض (يعقوب/ زوجها) وسيرته وترحلاته منذ الطفولة إلى بداية فقده الوعي نتيجة الحمَّى، فقررت أن تخرج هذه الكلمات، فجمعتها وأصدرتها في هذا الكتاب/ الذي سُمِّي – بعد حين – رواية تجنيساً كتابياً حتى لا يضيع بين الأجناس الكتابية الأخرى!!
ولو كانت (فضيلة) عالمة بمضايق السرد، وفنيات الرواية، لكان للإبداع السردي، وفنيات الرواية المعاصرة وشائج شتى في هذه المدونة السردية!!
هكذا أراد الكاتب/ الروائي/ القاص/ خالد اليوسف الخروج من تبعات هذه الرواية نقدياً، ليحيلها إلى هذيان.. وكلام لاواعي.. وجامع غير متقن لفن الرواية. وهذه أولى فنيات العمل الروائي الذي يقدمه لنا خالد اليوسف!!
* * *
(2) والنظــرة الناقـــدة الأولية تقول إنها روايـــة لا تملك خصوصية الروايــات الفنــية حــداثــياً ونقديــاً، فأســلوبـها ســردي تتــابـعي.. سـطحي، ليــس فيـها دهشــة الحــكي، ولا فنيات السرد، ولا توجهات الحداثة السردية/ الروائية!! ليس فيها زمكانية مضطردة، ولا أسلوبية التنامي الزمني المستقبلي والاسترجاعي، ولا الحضور العتباتي أو النَّص الموازي.. ويعذرها في ذلك أنها من راوٍ غائب عن الوعي، لا يملك هذه الفنيات، أما الراوي العليم فهو يقصد ذلك بوعي سردي متكامل، وقصدية تعريفية على أن عالم هذه الرواية المتخيلة، عالم واقعي له امتداد في بلادنا عبر حقبتها التأسيسية!!
ولكن عند التعمق القرائي، والمداولة الاستنطاقية تجعل الناقد الواعي، يقف على كثير من الملامح الأسلوبية اللافتة، والتماهيات الفنية الحداثوية، والأبعاد الزمكانية التي تتنامى بين ثنائيات الغياب/ الحضور الهامشية/ الشمولية، الواقعية/ الحلمية، الطبيعية/ الميتافيزيقية!! وهذا ما يجعل قراءتنا ومقاربتنا الناقدة تنحو إلى شيء من ذلك إن شاء الله.
(3) وبطريقة لولبية أو دولابية، نربط – نقدياً – بين نهايات الرواية (القسم 43) وبداياتها (القسم 1-3)، لنجد التكاملية والشمولية في الرصد السردي لهذه الرواية/ المشروع، ومن ذلك نستنتج الخطة المنهجية التي تسير عليها (بدءاً.. ومتناً.. ونهاية) مما يعطينا صورة أسلوبية/ بلاغية ينتهجها الراوي العليم/ خالد اليوسف، لرصد تمرحلات وارتحالات هذا الكائن (النجدي) المدعو (يعقوباً). ولعلنا نتكهن بدلالات وإحالات معجمية لهذه الشخصية المحورية في النَّص الروائي وانبثاقاتها التاريخية والدينية!!
فـ (يعقوب) يحط في ثقافتنا مرتحلاً من كينونته العبرية، إلى سيرورته العربية اسم علم، ورمز تاريخ، وفضاء معرفة يجتازها المنطوق والمسكوت عنه تاريخاً وثقافةً وتراثاً دينياً!!
في (القسم 43)، تشير الرواية والراوي العليم إلى البعد النفسي والواقع المرضي الذي ولدت في ثناياه أحداث الرواية وحكاياتها.. فهي في ظل غيبوبة عن الوعي، وهذيان لا رابط له.. واجتهادات تنظيمية يقوم بها الآخرون ليتحول ذلك كله إلى نصٍّ مقروء/ مكتوب!!
وفي القسم (3-1) تشير الرواية والراوي العليم إلى الأحلام والخيالات التي يستحضرها (يعقوب)، ويلوذ بها من عالمه الحقيقي، لتتنامى شخصيته بين أصداء متعددة ينبجس منها عوالم الراوي والأحلام والواقع والحمَّى، والحقيقي والخيالي، لتتكون – فيما بعد – هذه الرواية متشظية بين واقع حقيقي، كانته ديارنا النجدية في زمن مضى، وشخوصنا الواقعيون في تلك البقعة المكانية!! وبين آفاق خيالية/ سردية/ ثقافية يوثقها الكاتب/ الراوي/ الراصد لتجليات هذه التجربة الحياتية الصادقة واقعاً، والصادمة رؤية ورواية!!
ولنا – بعد ذلك – أن نستقرئ عالمها وعوالمها بين الواقع والمتخيل.. والمكتوب والمغيَّب، والمعقول والمؤمل.. وكل ذلك في ثنايا النَّص الذي بين أيدينا.
د. يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب