(4) وتظل (الشخصية) أبرز مكونات العمل الروائي (خاصة) والسردي (عامة)، فهي وسيلة الكاتب الروائي للتعبير عن رؤيته، وهي بمثابة الطاقة الدافعة التي تتحلق حولها كل عناصر السرد، ولذلك كان الروائي خالد اليوسف مهتماً بخلق شخوص روايته والانتقال بها عبر مجموعة من الحقول التوليدية والاستقبالية لإيمانه بأن (الشخصية) هي القوة المهيمنة في الرواية على مستوى النَّص، ومستوى الخطابة (أيضاً).
كانت الشخصية المحورية/ الرئيسة هي يعقوب الرضيع والتي شكلها الروائي (خالد اليوسف) بمقاييس إيجابية لتقوم بدورها في تنامي أحداث الرواية، فهي شخصية متطلعة لا ترضى بالواقع، وهي شخصية منطلقة، متجاوزة، تسعى للتغير والتنامي والتطور. ولذلك كانت ارتحالاته من قريته (عطوه) وبلدته (زليفات) إلى (عقلة الطينة) ثم (مزرعة العم نافع) ثم (العارض) وما تلا ذلك من ارتحالات!!
ورغم هذه الصور الإيجابية عن هذه الشخصية المحورية/ الأساسية إلا أنها شخصية على سجاياها.. بدائية.. غير متعلمة.. بنت بيئة يضرب الفقر والرجعية أطنابه فيها.. وفي الوقت نفسه شخصية ذات كاريزما بطولية، يبحث عن ذاته ويتسامى على أقداره سعياً وراء تغيير هذا الواقع عبر هذه الارتحالات المكانية والتغيرات الحياتية!!
ولأن العمل الروائي لا يكتمل إلا بوجود شخصيات ثانوية تقوم بدور المساعد لربط الأحداث وتعمل على إكمال المسار الروائي، وكذلك تسلط الضوء لإبراز الشخصية المحورية/ الأساس، فأوجد لنا (الموسويون الثلاثة) موسى الناعم، وموسى البرق، وموسى المطوع الذين آخوه رضاعة.. ووافقوه ترحلاً.. وبحثاً عن واقع جديد.
وكذلك سارت الرواية وتنامت حكاياتها عبر ارتحالات مرسومة بصدقٍ وواقعية، وروح إبداعية/ روائية تجد فيها المعرفة واللذة والدهشة فأنت أمام سيرة عاشها كثير من أبناء الجيل في مطلع الستينات والسبعينات والثمانينات، وتجد فيها صورة وطن ومجتمع يتخلق من رحم المعاناة إلى مسبار التطور والتقدم والرفاهية، ومن حياة البداوة إلى التمدن، ومن الشح إلى الكفاف والرزق الوفير!! وكذلك هي الروايات الصادقة تجعلك كقارئ تعيش تفاصيلها وكأنك أحد شخوصها ومعاصريها.
* * *
(5) وإذا كان للشخوص في الرواية تلك الأهمية في البناء السردي وإمكانات الحكي، فإن للمكان – أيضاً – بُعده (الطبولوجي) الذي أميل إلى تسميته (الفضاء الروائي) لأنه أشمل من قول بعض النقاد (المكان الروائي)، فما (المكان) إلا جزء صغير من (الفضاء) والدلالة فيها من الشمولية والتكاملية ما لا نجده في المكان!!
إن هذا (الفضاء الروائي) الذي يتخلق من واقعيته، وجغرافيته إلى معالم نصيَّة، وعوالم لغوية عبر أساليب الوصف والتقصي والتخييل الإبداعي الذي يجعل القارئ يلمس ويشاهد ويعيش هذه الفضاءات المكانية، وهذا ما نجده في (ارتحالات يعقوب النجدي) التي تجعلنا أمام ثلاثة من الفضاءات الروائية تشكل الملمح الأساسي لأمكنة (الترحلات)، مع إن هناك (مكانات) ثانوية تجيء عرضاً في النَّص الروائي وتحيله إلى جغرافيا متنوعة من (الأمكنة) المساندة أو الثانوية.
إن تلك الفضاءات الروائية تتخلق في دوائر طول وعرض تشي بها الرواية عبر المنظور التالي:
ولكل من هذه الفضاءات دلالتها ورمزيتها وشخضصيتها المائزة. فـ(زليفات) الفضاء الروائي الأول الذي يصوره لنا الروائي خالد اليوسف، عبر تمرحلات حياة البطل وحالاته النفسية تجاه هذا (الكائن المكاني) فهي البلدة (الطاردة للرجال وأهلها يعانون المسغبة وسوء الحال لا زرعاً تثمر ولا نخلاً تطلع والأمطار شحيحة) ص26، وهي (أرض غير مخصبة ولا منتجة لا تبقي ولا تذر) ص35.
أما (العارض/ الرياض) فهي الكائن الدلالي، والفضاء الروائي الثاني أهمية في حياة البطل وترحلاته المتعددة بحثاً عن واقع جديد، والتي يصورها بأنها (ذات طرق واسعة، والمباني ليست طينية، وفيها ناس أكثر وعمار جديد والمركبات لاحصر لها) ص36-38، ص49، وأنها (تشرق كل يوم على عالم جديد) ص58.
ثم يأتي المكان الثالث وهو (الكويت) التي ترسمه اللغة وصفاً جغرافياً واجتماعياً واقتصادياً فهي (مختلفة عن الرياض وفيها انفتاح كبير تقع على رأس الخليج العربي وهي البوابة التجارية، وهي مدينة حديثة وشوارع فسيحة وسيارات بمختلف الأشكال والألوان، بتنوع البشر والأجناس والنساء السافرات، فيها التلفاز والسينما والمسرح واختلاط النساء بالرجال، لا عباءات ولا حجاب، نساء من العراق والشام وفارس والهند، وهي مدينة بحرية وشواطئها مليئة بالرجال والنساء، شبه عراة، وفي أسواقها ما لا يوجد في أسواق الرياض من الأغذية والتموينات الواردة من شرق آسيا) ص ص89-98.
وهكذا كانت الفضاءات النصية/ الروائية، شاهدة على ما يملكه الروائي خالد اليوسف من حدس إيجابي تجاه الفنيات الأسلوبية لخلق الأماكن التي تسير فيها أحداث الرواية وتتشكل فيها شخصية البطل، فهي جغرافية حقيقية، يلبسها صوراً أسلوبية فاتنة، قادرة على نقل الأحاسيس والمشاعر والصور (الإبستمولوجية) إلى ذهن القارئ وجعله يعيش واقعاً معروفاً له، ومتغيراً عما يألفه ويعتاده، لأن اللغة والأسلوب تنقلنا من واقع كائن/ حقيقي إلى كائن متخيل روائي!!
وبالتأكيد هناك فضاءات روائية ثانوية، تأتي كحلية مكانية يستكمل بها جماليات تلك الفضاءات الرئيسة، ويستقصي أسرار الحبكة الحدثية والمتن الروائي لتكتمل الصورة، فهناك: البيوت الطينية، والمزارع، والسيارات، وأراضي البادية، والطرق غير المزفتة، والأسواق. وهناك الظهران والدمام والأحساء، وهناك البطحاء ودخنة والمقيبرة وهناك عطوه الصغيرة، وعقلة الطينة، والبطين الجنوبي، وهناك جبال طويق وأرض الحمادة ونفوذ الثويرات وصحراء الصمَّان، وبريدة وحائل والريدية والقصير وتاروت ودارين والنويصب والخفجي والزبير والبصرة… وكلها فضاءات جغرافية حقيقية، يلبسها لبوسات لغوية وأسلوبية تنقلها من واقع جغرافي ذو مساحة هندسية/ (طبولوجي) إلى صور ومشاهد وأيقونات تفاعلية روائية.
د. يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب