التخيل والخيال

هل الدماغ عضلة يمكن تدريبها وتقويتها أم أنه جزء جامد في أجسامنا لا يمكن تطويره أو تقويته أو تفعيل عمله بصورة أكبر وأقوى ليتطور عقلنا وتنمو أفكارنا.

في حديث متبادل عبر الواتس آب مع أحد الأصدقاء بعد أن أرسل لي مقطعًا قصيرًا عن شخص من جنسية عربية يتحدث فيها عما أسماه – َوهَمْ التنمية البشرية – حيث قال (أغمض عينيك وتخيل نفسك أسدًا، ستصبح أسدًا) ثم قال في المقطع المرئي لن تصبح أسدًا إنما ستصبح شخصًا مغمض عينيه. أرسلت لصديقي قائلأ بأن هذا الشخص أقل ما أستطيع أن أقول عنه أنه (مُهَرِج)، إذ لو أن لديه أدنى علم أو معرفة بنفسة وما خلقها الله عليه أو أن له معرفة بعلم العقل البشري وعلم الأعصاب والأبحاث الكثيرة التي أجريت في هذا المجال، لما تجرأ أن يستهزيء ويقول هذا الكلام.

إن الموضوع ليس فقط إغماض العينين ثم التخيل فتتغير الأمور إلى الأفضل في لمح البصر، إنما هو تخيل ثم عمل ومثابرة وتطوير وتعديل وتجربة ثم تخيل وعمل جاد مستمر وهكذا حتى يصل الإنسان إلى ما يريد بفضل الله.

إن التنمية البشرية والتطوير ليست وهماً، وإنما هما علم يُدرس في الجامعات، والإنسان حياته كلها قائمة على التنمية والتطوير المستمر منذ أن يولد إلى آخر يوم في حياته، وإن الله عندما خلق أبو البشر عليه السلام علمه أسماء كل شيء وهيأه ليستخدم هذا العلم عندما ينزل إلى الأرض وأن يستمر في التطور. وإن الدين الإسلامي عندما جاء، لم يأتي إلا لتطوير البشر ونقلهم من حالة فكرية متدنية تعودت على عبادة الأصنام والمخلوقات الأخرى ونقلهم إلى حالة فكرية أعلى درجة وأسمى منزلة وهي عبادة الله الواحد الأحد سبحانه وتعالى وأن يحسن حياتهم في الدنيا والآخرة.

يخلط كثير من الناس في معرفة الفرق بين الخيال والتخيل فيظنون أنهما شيئًا واحدًا، إنما في الحقيقة الفرق بينهما كبيرٌ جدًا:

فالخيال هو التفكير فيما ليس من الممكن تحقيقه أو رؤيته على أرض الواقع في الحياة، فمثلًا أن تفكر في أن ترى نفسك تطير بدون أي مساعدة خارجية بجهاز أو نحوه، فهذا يعتبر خيال لايمكن تحقيقه، أو أن تفكر في أنك تستطيع إنقاص عمرك أو أن تعود بعمرك الحقيقي سنوات إلى الوراء فهذا خيال محض. وقد يطلق البعض على بعض الأفلام التي تتنبأ بما سيحدث في المستقبل من إبتكارات أو علوم بـ (أفلام الخيال العلمي) وهي تسمية خاطئة على كثير منها، إنما في الحقيقة بعضها لا ينطبق عليه ذلك وإنما يمكن تسميتها (التخيل العلمي) ومع ذلك فإن كثير من الأشياء التي تخيلها العلماء أمكن تحقيقها على أرض الواقع . أما الخيال العلمي هو ذلك الذي يتحدث عن الذهاب إلى المستقبل وتغيير المستقبل أو العودة إلى الماضي وتغيير بعض الأحداث ونحو ذلك من الخيالات.

أما التخيل فهو التفكير في شيء ليس موجود على أرض الواقع وإنما من الممكن تحقيقه ببذل القليل أو الكثير من الجهد أيًا كان هذا الجهد، فحياتنا كلها قائمة على التخيل، فمثلًا عندما تريد أن تخرج من بيتك صباحًا إلى عملك أو مكان ما، فإنك تتخيل الطريق وقيادة السيارة والإزدحام، وقد تتخيل نفسك تمر على مكان تتناول فيه إفطارك أو تشرب فيه مشروبًا ساخنًا أو باردًا فإن هذا تخيل ويمكن تحقيقه على أرض الواقع وهذا يحدث تقريبًا مع كل شخص في معظم شؤونه. وكذلك حدث مع كثير ممن جاؤا بالإختراعات والإبتكارات، ومن ضمن ذلك ما يقوم به المهندس المصمم والمنهدس الإنشائي فهم يرون المبنى أو الشيء سواءً كان أداة أو آلة جاهزًا قبل أن يجهز وذلك بمجرد التخيل وبعد ذلك يقومون ببذل الجهد في التصميم والألوان والأشكال ثم العمل الذي يجعله واقعًا ملموسًا.

إن القرآن الكريم والسنة النبوية تحدثتا عن التخيل عن أشياء في المستقبل وليس الخيال ولنا أن نقرأ ذلك في ثلاث سور من القرآن الكريم وهي سورة التكوير، سورة الإنفطار، وسورة الإنشقاق، فقد ورد في حديث إبن عمر رضي الله عنه حيث قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سرّهُ أن ينظرَ إلى يومِ القيامةِ كأنهُ رأيُ عينٍ فليقرأ : إذا الشمسُ كُوِّرت، إذا السَّماءُ انفطرتْ، إذا السَّماءُ انشقَّتْ (أخرجه أحمد، والترمذي، والطبراني). ويوجد غير هذه السور في القرآن الكريم عدد من الآيات التي تتحدث عن ملكة التخيل عند الإنسان وتدعو إليه.

وفي الشعر العربي القديم هناك أمثله عن التخيل والصور الذهنية التي يرسمها الشاعر وكأنك تراها، منها قول امرؤ القيس:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

إلى أن يقول

كَأَنِّيْ غَدَاة َ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا

لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

فهو هنا يصف لنا المكان وأيضًا رسم صورة ذهنية رائعة لنفسه وحالته وما يشعر به من المرارة والأسى وكأن القاريء يراها عندما أتى إلى المكان ولم يجد من يحب، ويهمنا هنا النظر إلى البيت الأخير، لك أن تتخيل حالة الذي يعصره قلبه من الأسى وما يشعر به من المرارة وقد شبه حاله بناقف الحنظل وهو الذي يكسر ثمرة الحنظل (المعروفة محليًا بإسم الحدج) فمن مرارتها يشعر الذي يكسرها بمرارة في فمه وتدمع عينيه.

ولقد أقيمت عدة أبحاث في عدة جامعات حول العالم عن العقل البشري وعلم الأعصاب والذي يسمى (neuroscience).

(فكيف يعمل علم الأعصاب والتخيل؟

يشكل علم الأعصاب والخيال جزءًا من الحياة اليومية، يقول الخبراء أن البشر يستخدمونه بصورة كبيرة في مرحلة الطفولة وليس له حدود حيث أن العقل مبدع بشكل لا يصدق، أما مع تقدم العمر والإنشغال في الحياة اليومية والعودة إلى التفكير الواعي تضعف ملكة التخيل نوعًا ما مما يؤدي إلى قصور في الإمكانيات الذهنية فتصبح غير مستغلة لدى كثير من الناس، ولهذا يحتاج الناس إلى أن يملؤا حياتهم بالتحديات وأن يُفعلوا التخيل لتحويل بعض الأفكار إلى واقع وإبتكارات وهذا ليس بصعب وإنما يمكن تعلمه والتدرب عليه).

إن الذي بين القوسين هو جزء مترجم مقتطع من مقال باللغة الإنجليزية كتبته (Valeria Sabater) وهي خبيرة في علم الأعصاب ولديها عدة كتابات في نفس المجال منذ عام 2004م، وهذا رابط المقال:

   https://exploringyourmind.com/neuroscience-of-imagination/

وهناك عدة أبحاث عن علم الأعصاب وعلاقته بالتخيل بما فيها الأحلام التي تحصل في النوم أثناء فترة ما يسمى بـ (حركة العين السريعة) أو  Rapid Eye Movement وهي المرحلة أثناء النوم التي تكون فيها موجات الدماغ قريبة من اليقظة الغير واعية.

إن موضوع التخيل عميق وقد بذلت ما أستطيع من جهد للإختصار والإبتعاد عن المصطلحات العلمية العميقة، إنما خلاصة القول إن معظم شؤون حياتنا قائمة على التخيل والتي ينتج عنها أفعال نقوم بها في الواقع سواءً كانت لأشياء بسيطة في حياتنا اليومية أو لأشياء معقدة أو لإبتكارات وإختراعات تُسهل حياتنا وحياة الآخرين، ولذلك فإن النفس البشرية بحاجة دائمة إلى التنمية والتطوير المستمر لأن الله سبحانه وتعالى خلقها للعبادة وعمارة الأرض وهاتان لا يمكن القيام بهما من غير أن يكون هناك تطوير وتنمية مستمرة.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

26 تعليق على “التخيل والخيال

احمد زمزمي

اخي الغالي عبد العزيز
ماشاءالله تبارك الرحمن ربي يسعدك ويحفظك من كل شر يارب. دائمآ مبدع ومنطقي ومقنع في جميع كتاباتك ومنطقك زادكم الله من فضلك

غير معروف

لاحياة بدون تخيل ……موضوع جميل جزاك الله خير

صالحة العساف

مقال رائع وفلسفي في تبسيط الافكار والعمل عليها وتطويرها .. يستحق النشر

محمد مساعد

ماشاءالله تبارك الله
اخي الحبيب عبدالعزيز دائما مبدع واتمنى لك التوفيق

احمد السليمان

الأستاذ الفاضل ابا سهل
اوجزت فابلغت. لمن اراد…اسلوب سهل ومنطقي. قال تعالى في سورة الكهف. (ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان آكثر شي جدلا). الآيه ٥٤. سدد الله على دروب الخير. خطاك.

Randa Alhosaini

فعلا مقال يستحق القراءه ،،معلومات ثمينه قد يجهلها البعض .. نفع الله بك وبعلمك ..

فيصل الحربي

سملت يمينك اخي الدكتور عبدالعزيز
مقال من العيار الثقيل كُتب باسلوب سلس ومُبسط يستحق القرأه اكثر من مرة لاستيعاب مافيه من كنوز المعرفه في هذا المجال العلمي

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

أخي الغالي وزميل الزمن الجميل أحمد زمزمي
بارك الله فيك وفي مشاعرك النبيلة ومداخلتك الرائعة.
حفظك الله ورعاك، أشتقنا لرؤيتك.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الرامز لإسمه غير معروف
مداخلة جميلة .. لا حياة بدون تخيل … ونضيف جمالها في التخيل المتفائل.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخت الفاضلة الفنانية التشكيلية صالحة العساف
الروعة إنعكاس لثقافة القاريء وعمق أفكاره.
بارك الله فيك ورعاك.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ الفاضل محمد مساعد
بارك الله فيك، سرني تعليقك ودعاؤك، ولك بالمثل إن شاء الله.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

حبيبنا الغالي أحمد السليمان
حياك الله يارفيق الغربة والأيام الجميلة، صدقت أوجد الله في القرآن كل ما يحتاجه الناس، العبرة في التدبر.
جزاك الله خيرًا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

إبنتي الغالية
Randa Alhosain
وفقك الله ورعاك وزادك رفعة وعلمًا ونفعك ونفع بك.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأستاذ الفاضل فيصل الحربي
سلمك الله ورعاك ووفقك لما يحبه ويرضاه.
كلماتك الرائعة لها وقع خاص عندي.
جزاك الله خيرًا.

ياسر عبدالعزيز

ماشاء الله تبارك الرحمن طرح مميز لموضوع مهم، كَثُر اللغط فيه.

محمد عرب

ماشاء الله عليك شرحت فأوجزت واوضحت ..فكان ما أردت دون تكلف وابتذال سلمت يمينك ..

بشير خياط

ماشاء الله عليك دائماً مبدع وطموح
وفقكم الله وسدد خطاكم

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الإبن الدكتور ياسر
خير ما قلت حفظك الله.
نسأل الله أن يوفقنا فيما نطرح من مواضيع وأن يكون فيها المنفعة لنا وللآخرين بإذنه تعالى.
جزاك الله خيرًا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ العزيز محمد عرب أبا نزار
الله يسلمك ويسعدك ويوفقك وجزاك الله خيرًا على كلماتك اللطيفة.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ الأستاذ الفاضل بشير خياط
كلك خير وبركة الله يحفظك ويرعاك.
جزاك الله خيرًا على دعواتك ولك بالمثل إن شاء الله..

يوسف الصحفي

مشاء الله تبارك الله
شرح مبسط وجميل التخيل هو اساس كل نجاح لان النجاحات تبدأ بالتخيل ثم لتخطيط لجعل ذلك حقيقة على ارض الواقع

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

أخي الشقيق يوسف الصحفي
بارك الله فيك وحفظك، صدقت فإن كل عمل ناجح خلفه الكثير من التخيل والجهد والمثابرة.
وفقك الله وجزاك خيرًا على الإضافة الجميلة.

ر.ي

صحيح أن التخيل ضروري حتى نبتكر ما هو مفيد وبما أن التخيل يعتمد على التفكير ، (لذلك يجب علينا معرفة مهارات التفكير الإيجابي )
والمهارات تتكون من سته عناصر:
١-مراقبة الأفكار،واستبعاد السلبية منها.
٢-عدم الأسترسال مع الانفعالات السالبة.
٣-تحديد الأهداف وترتيبها حسب الأولويات.
٤-البحث عن الأدلة بدل من الاستناد إلى فرضيات.
٥-تجنب العزله والأنطواء على الذات.
٦-عدم استخدام العبارات المطلقه مثل:دائمآ وأبدا.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الأخ أو الأخت ر.ي
جزاك الله خيرًا على الإضافة الرائعة، وفقك الله ورعاك.

المشرفة/جميلة الصحفي

الكاتب/الدكتور عبدالعزيز الصحفي
عندما شرعت في قراءة هذا المقال لم استطع تركه حتى اكمله فقد ادهشني تناول مقدمة المقال باسلوب سهل جديد و غير مستهلك يجذب القارئ الى متابعة قراءة الموضوع بكل ما يشتمله من نقاط معرفية، علمية و ادبية مستندة على النصوص الشرعية و المواقف النبوية و الجوانب النفسية و مستعرضاً الفرق بين التخيل و الخيال مخاطباً الوجدان والعقل في آن واحد

الدكتور/ عبدالعزيز الصحفي، بارك الله في جهودك المبذولة لخدمة هذا المجتمع.

عبدالعزيز بن مبروك الصحفي

الفاضلة المشرفة جميلة الصحفي
تشرفت بمرورك العطر وبشخصيتك الرائعة وبتعليقك المتزن الواعي الذي أضفى بُعدًا وعُمقًا للمقال، فجزاك الله خيرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *