(6) وهناك (ثيمتان) مهيمنتان على جملة العمل الروائي الذي بين أيدينا، وه8ما ثيمة (الفقد)، وثيمة (الهجرة) أو (الترحال)!! وهما (ثيمتان) مائزتان يلمسها القارئ منذ العنوان وأول سطور الرواية.. وعبر أحداثها ومتنها.. وحتى خاتمتها ولها دلالتها ورمزيتها الضمنية.
فالعتبة العنوانية تحمل ثيمة (الهجرة والارتحال) من خلال العبارة: (ارتحالات يعقوب النجدي) والارتحالات في المعجم اللغوي تعني التنقل في المكان والزمان. ولهذا فالعتبة العنوانية تتمشى (دلالة ومضموناً) مع المعنى اللغوي وترتحل بنا من محطة إلى أخرى في ديمومة لغوية، ودلالات زمكانية، ورمزيات أسلوبية، وموضوعات جغرافية، وبيئات متعددة كما سنقف عليه شاهدياً عبر الاقتباسات التالية:
– أهالي الزلفي يتشردون بعد المجاعة والهلكة ويتنقلون في الصحاري بحثاً عن الخيرات، ويرتحلون إلى أقصى الشمال عند الأنهار الجارية والأراضي الخصيبة.. ص13.
– بلدة عطوه الصغيرة حلت بها سنوات القحط والمسغبة فأصبحت منفرة/ طاردة/ فتناثر أهلها في بلدات زليفات الأخرى.. ص15.
– يعقوب الرضيع وتنقلاته وارتحالاته إلى ديار أخواله وأبناء العمومة بحثاً عن الأمن والحياة الرغيدة.. ص 19.
– مرافقة الوالد في رحلاته التجارية منذ عمره المبكر واكتشاف عوالم أخرى غير التي يعرفها في بلدته الصغيرة.. ص22.
– قرار الهروب من (زليفات) إلى (العارض) ثم إلى (الكويت)، ودواعي ذلك الارتحال والهجرة.. ص23 وما بعدها.
– الحركة اللولبية، والتداول الرحلاتي ما بين الكويت والرياض والزليفات والعراق بحثاً عن الجديد والمفيد والمختلف (اطلاعاً واستثماراً) ص81، 113، 123 وما بعدها.
كل هذه الانتقالات والرحلات تشكل بعداً جغرافياً ومجتمعياً ويجعل منها (ثيمة) أسلوبية تحمل الرواية وتنقلها من مرحلة الـ(حكي) إلى انصهارات (الفن والأسلوب والجمال الإبداعي).
وأما ثيمة (الفقد) فنجد تجلياتها في مجمل العمل الروائي بصيغ وأساليب مختلفة، لكنها تعطي هذه الدلالة وهذه الرمزية، ويحولها من حالة واقعية متحققة في حياة بطل الرواية إلى حالة أسلوبية/ خطابية/ لغوية تجمل النَّص وترفعه إلى مقام الروايات المائزة.
ومن تجليات هذه الثيمة قول الراوي العليم:
– أمي التي لم ترها وتذق حليبها ولم يدفئك صدرها وحضنها الرحيم.. أنت ترى أمي التي لم ترها.. ص6.
– لماذا ليس له أم كالآخرين.. ص7.
– شعرت بالفناء والعدم.. هددني الموت عند ولادتي والمرض المنتشر في القرية بين النساء.. ص9.
– الموت شريك الأحلام.. رحيل الأخ أبو عبيد والأخ أبو محمد ويأتي الموت زائراً في كل صباح ومساء.. انقرض أهالي الزلفي الواحد تلو الآخر في مجاعة ومهلكة.. ص ص 10-11.
– الوفيات وأخبارها بين الأصحاب والأهل والأقارب.. ص120 وما بعدها.
كل هذه العبارات الدالة على (الفقد) والمؤكدة على هذه الحالة الواقعة حققيقة، والمتحولة أسلوباً ولغة روائية، يجعل منها ثيمة تتنامى في النَّص الروائي وتزيد جمالياتها الأسلوبية رونقاً، وفناً ومقروئية.
وبهاتين (الثيمتين) يتنقل بنا الراوي العليم في آفاق الجغرافيا والتاريخ، (مكاناً وزماناً)، وفي آفاق الإبداع (رواية وحكايا)، لنترحل مع يعقوب النجدي في ارتحالات معرفية وتكوينية ولغوية وأسلوبية يتماهى فيها القارئ، والمؤلف، مع شخصيات الرواية وأحداثها ومضامينها في صيرورة أسلوبية/ جمالية/ تغري الناقد بالدرس والتفكيك والتأويل، وصولاً إلى المقاصدية التي يتغياها المؤلف/ الروائي خالد اليوسف عبر هذه المدونة الإبداعية!!
* * *
(7) ومن المعطيات الفنية، والجماليات الأسلوبية التي تشي بها هذه الرواية عبر مضامينها الموضوعاتية، ودلالاتها الموحية، تصوير المجتمع المحلي/ السعودي/ النجدي في السبعينيات والثمانينيات الماضية وكيف كانت قرى نجد وأريافها وضواحيها وارتحالاتها في الزمن والتطور من بيئة ومجتمع يعاني الضيق والمسغبة إلى مجتمع التمدن والتطور وناطحات السحاب والشوارع الملونة، عبر حقبة زمنية قصيرة إذا قورنت بمجتمعات نامية مثلناَ!!
أعتقد أنها سيرة وطن، وسيرة مجتمع وسيرة فرد عشناها قراءً ونقاداً ومثقفين في مرحلة سابقة من تكون وتشكل الوطن السعودي، وحتى حالته المؤسفة أثناء أثناء سنوات العنف والتكفير والإرهاب والأحزمة الناسفة!! وحتى حالته الراهنة من الأمن والاستقرار والرؤية المباركة!!
د. يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب