الحمد لله الذي جعل الهِجرةَ فتحًا ونصرًا وعزًا للإسلامِ وفخرًا للمسلمين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المهاجرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد أن وقفنا على مرحلة مهمة من
مراحل حياة النبي – ﷺ – ماقبل الهجرة، وهي مرحلة الولادة والنشأة والشباب والكدح والعمل والحياة الزوجية.
نستعرض المرحلة الثانية:
وهي مرحلة البعثة والدعوة، وقد تضمنت العديد من الأحداث، وأهمها: بعثته – ﷺ – نبيًا بعد أن تكامل له أربعون سنة – وهي رأس الكمال. وقيل: ولها تبعث الرسل.
بدأت آثار النبوة تلوح له من وراء آفاق الحياة، وتلك الآثار هي الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلاجاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزآ من النبوة.
فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته – ﷺ – بغار حراء، شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بايات من القرآن.
نزل عليه جبريل بالوحي وهو يتعبد في غار حراء، وكان أول ما نزل عليه من وحي القرآن الكريم أول خمس آيات من سورة العلق.
ثم نزلت عليه بعد ذلك الآيات الأولى من سورة المدثر تأمره بالدعوة إلى الإسلام، وتوحيد الله – تعالى – في العبادة والأخلاق الحسنة.
ظل – ﷺ – يدعو الناس سرًا إلى الإسلام ثلاث سنين، فقد عرض الإسلام أولًا على ألصق الناس به من آل بيته، وأصدقائه، وقد أسلم في أول يوم من أيام الدعوة زوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة، وابن عمه علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق – رضي عن الجميع.
ثم دخل الناس بعد ذلك في الإسلام من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتُحدث به.
مرت ثلاث سنين والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها، ثم تنزل الوحي بتكليفه – ﷺ – بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم ومهاجمة أصنامهم.
فأمره الله – تعالى – أن يجهر بالدعوة إلى الإسلام، وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، [الشعراء: ٢١٤].
فوقف – ﷺ – على جبل الصفا ونادى أهل مكة وأخبرهم بخبر الرسالة، ولكنهم سخروا منه وكذبوه، وحاربوا دعوته بكل الطرق؛ وعذبوا من كان يُسلم، حتى استشهد بعضهم تحت التعذيب، وآذوه – ﷺ – بالقول والفعل حتى أنهم حاولوا قتله مرارًا.
وبدأت الإضطهادات ضعيفةً في أواسط أوآخر السنة الرابعة من النبوة، ثم لم تزل يومًا فيوما وشهرًا فشهرا حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة.
وكان النبي- ﷺ – قد علم أن في الحبشة ملكًا عادلًا، لا يُظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يُهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم من الفتن.
وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برقُ نورٍ للمقهورين طريقهم، ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب – رضي الله عنه – أسلم في أوآخر السنة السادسة من النبوة، وبعد إسلامه بثلاثة أيام أسلم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.
اتفق المشركون على ميثاق الظلم والعدوان، فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب وفرضوا عليهم الحصار الجائر في الشعب لمدة ثلاث سنين، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق، وعُلقت في جوف الكعبة.
مرت ثلاثة أعوامٍ كاملةٍ وهم في الحصار، وفي المحرم من السنة العشرة من النبوة حدث نقض الصحيفة، وفك الميثاق، وعندما قاموا لتمزيقها وجدوا الأرضة قد أكلتها.
وبعد الخروج من حصار الشعب بستة أشهر في رجب من السنة العاشرة من النبوة توفي عم النبي – ﷺ – أبو طالب، وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة – رضي الله عنها – بثلاثة أيام.
ورغم أن أبا طالب كان الحصن الحصين الذي تحتمي به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، لكنه بقي على ملة الأشياخ من أجداده، رغم محاولات النبي – ﷺ – في إسلامه.
وبعد وفاة أبي طالب توفيت أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – كانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول الله – ﷺ – آنَ ذاك في الخمسين من عمره.
بعد هذه الأحداث الأليمة اهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله – ﷺ – حتى سمي هذا العام بعام الحزن. فقد كانت زوجته وعمه يدفعان عنه الكثير من الأذى والضر.
ثم لم تزل تتوالى عليه الإبتلاءات من قومه، فقد تجرأوا عليه، وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم وخرج إلى الطائف، رجاء أن يستجيب أهل الطائف لدعوته أو يُؤوهُ ويَنْصُروه على قومه، فدعاهم إلى الله – عز وجل – فاستهزأوا به وكفروا بدعوته، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه – ﷺ .
رجع – ﷺ – من الطائف وهو مليء قلبه بالأشجان والأحزان؛ لأن قومه رفضوا هذه الدعوة وهو يعلم أنها خير لهم، فانصرف عنهم – ﷺ – عائدًا إلى مكة.
لم يتحطم ﷺ نفسيًا، ولم يحتج إلى أحد في الدنيا وإنما التجأ إلى الله.
وفي شوال من السنة العاشرة من النبوة تزوج النبي – ﷺ – سودة بنت زمعة – رضي الله عنها – وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة – رضي الله عنها.
وفي شوال من السنة الحادية عشرة من النبوة تزوج النبي – ﷺ – عائشة الصديقة – رضي الله عنها – وهي بنت ست سنين وبنى بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين، وكانت بكرًا ولم يتزوج بكرًا غيرها، وكانت أحب الخلق إليه، وأفقه نساء الأمة، وأعلمهن على الإطلاق.
وقد أكرمه الله – تعالى – برحلة الإسراء والمعراج بعد حادثة الطائف؛ ليُثبّت فؤاده ويُكرّمَهُ أهل السماء بعد أن طرده أهل الأرض.
لم تكن رحلةُ الإسراء والمعراج حدثًا عاديًا؛ بل كانت معجزةً إلهيَّة متكاملة أيد الله بها نبيهُ محمدًا – ﷺ – ونصر بها دعوتهُ، وأظهَرهُ على قومه، لِيُسرِّيَ عنهُ ما لقيهُ من أهل الطائف، ومن آثار دعوتِه، وموت عمه وزوجته.
في رحلة الإسراء والمعراج أَطْلَعَ اللهُ نبيَه – ﷺ – على بعض الآيات الكبرى، توطئةً للهجرة، ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر، والضَّلال.
هاتان مرحلتان من حياة النبي – ﷺ – ماقبل الهجرة، وقفنا فيهما على أهم الأحداث بإيجاز، وفي الجزء الثالث من المقال نستعرض بمشيئة الله – تعالى – المرحلة الثالثة وهي مرحلة تنبؤات الهجرة النبوية، والهجرة الأولى والثانية إلى الحبشة، وبيعة العقبة الأولى والثانية.
اللّهم أَحينا على سنَّةِ نبيِّك محمد – ﷺ – ووفقنا لسيرته والسير على منهاجه، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واكرمنا بمرافقته في الفردوس الأعلى.
والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب