الحمد لله الذي جعل الهِجرةَ فتحًا ونصرًا وعزًا للإسلامِ وفخرًا للمسلمين. والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد سيد المرسلين وإمام المهاجرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فبعد عناء السفر ومعاناة المسير وصل ركب النبيّ – ﷺ – إلى المدينة المنورة في شهر ربيع الأول، من العام الثالث عشر من البعثة، وهي السنة الأولى من الهجرة.
وَعَلَى مَشَارِف يَثْربٍ طَلَعَ السَّنَا
وَبَدَا الرَّسُولُ عَلَى الأَحِبَةِ مُشْرِقَا
وقبل أن يدخل النبي – ﷺ – المدينة نزل في قباء على (كلثوم بن الهرم) كبير بني عمرو بن عوف، وهو أول الصحابة وفاة من الأنصار بعد هجرة النبي – ﷺ.
وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يترقبون وصوله كل يوم قد سبقوه إلى ذلك المكان.
القومُ مُذ فارقتَ مكّةَ أعينٌ
تأبى الكرَى وجَوانحٌ تَتململُ
********
يتطلّعون إلى الفجاج وقولُهُمْ
أفما يُطالِعُنا النبيُّ المُرسَلُ
فلمّا رآه رجل من اليهود عرفه وصعد على أطم من آطام المدينة (قلعة)، فنادى بأعلى صوته يامعشر بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون، يعني: حظكم، وصاحب دولتكم.
وبنو قيلة: هم الأوس والخزرج.
وسموا بذلك لأن أمهم الأخيرة كانت تسمى قيلة.
فثار المسلمون الى السلاح فتلقَّوهُ بظهر الحَرَّةِ، وسُمعتْ في المدينة الرَّجة والتكبير: الله أكبر جاء رسول الله، فَرَحًا بقدومه وخرجوا للقائه.
أقام – ﷺ – في قباء يوم الإثنين والأربعاء والخميس والجمعة، وقبل أن تزول الشمس ويؤم الناس في الجمعة، ترك بني عمرو بن عوف ومر على بني عمومتهم بني سالم بن عوف فدعوه، فما أحب أن يفرق بينهم حتى لايحتج بني عمرو على بني سالم، وكلهم أبناء رجل واحد على أخوانهم، فَقَبِلَ أن ينزل في بني عمرو بن سالم ليصلي الجمعة عندهم، وكانت أول جمعة صلاها النبي – ﷺ – في المدينة، وأسس مسجد قباء.
وبعد أن تجاوز الوادي الذي صلى فيه أتى إلى المدينة في ثنية الوداع، فخرج الناس إلى استقباله، قال أنس – رضي الله عنه -: “دخل علينا النبي – ﷺ – المدينة فأنار منها كل شيئ”
إنَّ الرَّسُولَ لنُورٌ يُستضَاءُ بِهِ
مَنْ ظُلمَةِ الشِّركِ أَومِنْ ظُلمَةِ الكُفْرِ
***********
وإنْ أرِدْنَا لَهُ وَصْفًا يَلِيقُ بِهَ
فَهْو السِّراجُ الذِي يُغْنِي عَنِ البَّدْرِ
وقد بعث النبي – ﷺ – إلى أخواله من بني النجار يريد أن يكرمهم فَجَاءُوا متقلدين السيوف، يحيطون بناقته القصوى وهو عليها، فرحين أنه منهم.
انْظُر بنى النّجَارِ حَولكَ عُكّفًا
يَرِدُونَ نُورَك حِينَ فَاضَ المنهلُ
**********
لم يُنزِلوكَ على الخُؤولةِ وحدَها
كلُّ المواطنِ للنّبوّةِ مَنزلُ
وقد تطلَّعَ زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول- ﷺ – كل يريد أن يظفر بشرف نزول رسول – ﷺ – في بيته، وكانوا يعترضون الناقة سيدًا إثر سيد، ويقولون: يارسول الله هلمَّ إلى العدد والعدة، والعز والمنعة، فيقول – ﷺ: خلوا سبيلها فإنها مأمورة.
يا قائدَ القَصْوَاءِ دعْها؛ إنّهَا
مَأْمُورةٌ فَاعجبْ لهَا أنْ تُؤْمَرَا
**************
دَعْهَا تَسِر فَلسَوفَ تُلْقِي رَحْلَهَا
فِي مَوضَعٍ سَيكُونُ بَعْدُ المِنْبَرَا
**************
وَلسَوفَ يَغْدُو بَعْدَ ذَلِكَ رَوضَةً
مِنْ جنّة الفِرْدَوسِ يَقْصِدُهَا الوَرَى
أحب – ﷺ – ألا يفرق الناس، فلو قبل دعوة الأوس قالت الخزرج مَالأْهُم علينا من أول يوم، ولوقبل دعوة الخزرج، قالت الأوس مَالأهُم علينا من أول يوم، فتحرج – ﷺ – أن يقبل دعوة أحد، وقال خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، حتى بركت في موضع المسجد اليوم ولم ينزل، ثم قامت وأخذت جوله، ثم عادت إلى مبركها الأول فبركت، فنزل رسول الله – ﷺ- فعند ذلك غمرت الفرحة فؤاد أبي أيوب الأنصاري؛ وكان رجلاً عاقلاً ما زاحم الناس، بل بادر إلى رسول – ﷺ – وحمل متاعه بين يديه، وكأنما يحمل كنوز الدنيا كلها ومضى به إلى بيته.
فسأل – ﷺ – عن رحله فقالوا: في دار أبي أيوب، فقال- ﷺ: المرؤ مع رحله.
والنَّاقَةُ القَصْواءُ تَمْضِي بالهُدَي
وَبِبَيتِ أَيوبٍ تَنِيخُ تَرَفُقـًـا
**********
وتُحِيطُ بِالنُّورِ المُهَاجِرِ أُمَةٌ
نَالتْ بِهِ مِنْ كُلِ خُلدٍ مُرْتَقَـي
بعد أن أقام النبي – ﷺ – في بيت أبي أيوب نحو سبعة أشهر، حتى تم بناء مسجده، وبناء حجرات أمهات المؤمنين، سودة وعائشة – رضي الله عنهما – انتقل بعد ذلك إلى الحُجُراتِ التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه.
هكذا كانت مراسم الإستقبال للنبي – ﷺ – من أهل المدينة الذين قدَّموا صورة مشرقة للتاريخ في حسن الاتباع والاقتداء بقائدهم – ﷺ – في المنشط والمكره. وفي الجزء السادس والأخير من المقال نستعرض بمشيئة الله – تعالى – الخطوات التي قام بها النبي – ﷺ – في توطيد دعائم الدولة الإسلامية الناشئة.
اللّهم أَحينا على سنَّةِ نبيِّك محمد – ﷺ – ووفقنا لسيرته والسير على منهاجه، وتوفنا على ملته، وارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، و أكرمنا بمرافقته في الفردوس الأعلى.
والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب