ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻣﻌﺰ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺑﻨﺼﺮﻩ، وﻣﺬﻝ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﻘﻬﺮﻩ، ﻭﻣﺼﺮﻑ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺑﺄﻣﺮﻩ، ﺟﻌﻞ ﺍﻟﻌﺎﻗﺒﺔ ﻟﻠﻤﺘﻘﻴﻦ ﺑﻔﻀﻠﻪ، ﻭﺃﻇﻬﺮ ﺩﻳﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻛﻠﻪ.
والصلاة والسلام على أشرف خلقه نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا المقال هو استكمالٌ لمقالاتٍ سابقة عن “قصة الهجرة النبوية” والتي استعرضنا فيها بشيء من الإيجاز مراحل حياة النبي – ﷺ – حتى وصوله إلى المدينة المنورة.
إن المتأمل في قصة الهجرة النبوية وفي كل حدث من أحداثها المباركة، يجد أنها ليست قصة تروى ولا كلمات تُسطر في كل عام، ولكنها تضحية وصبر، وعطاء وبذل، وإيثار وإيمان وصدقٌ مع الله – عز وجل.
إن حدث الهجرة النبوية أثبت لنا أن الإيمان بحتمية الإبتلاء لا يعني الاستسلامَ له، وعدم بذل الطاقة والوسع للخروج منه، وأن البحث عن المخارج من الأزمات ليس فرارًا من قدر الله إلا إلى قدر الله.
وأن وجوب التوكل على الله واليقين بأقداره، لايعني عدم الأخذ بالأسباب، وحسن التخطيط، واختيار الصديق، وانتقاء الكفاءات، وتوزيع المهام، والثبات على الحق، وأداء الأمانات حتى مع الأعداء، والتضحية والإيثار، وتحمّل الصعاب، وحب الوطن….!
كل هذه المعاني التي سطرتها أحداث الهجرة ورسمت معالمها بعناية فائقة، تستوجب منا الوقوف عند محطاتها، والأخذ من فوائدها وعظاتها، نستلهم منها الدروس والعبر، التي لا يُحيط بها الحصر ولا يستوعِبها البيان، فهي بحقٍّ تشريع للأمة ومَعْلمٌ من مَعالِمِ دينها.
وأول هذه الدروس:
أن عِظَمِ شأن الهجرة النبوية جعلت الصحابة – رضوان الله عليهم – يؤرخون بها تاريخ المسلمين، بأمر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إحياء لذكرى هذه الهجرة العظيمة، وشكرًا لله على هذا الفضل العميم.
ثانيًا: أنها أبرزت أعظم نماذج الإيمان واليقين والتوكل على الله من جهة، واتخاذ الأسباب من جهة أخرى.
ثالثًا: حسن التخطيط.
الذى ظهر جليًا فى تصميم النبى – ﷺ – خطة محكمة للهجرة، فاختار: الوقت، والرفيق، والطريق، والدليل، للإختفاء عن المُشركين.
رابعًا: توظيف الطاقات.
فقد قام – ﷺ – بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
وقد تجلى ذلك باختياره لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه -الذي ضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة لينام على فراشه.
وعبدالله بن أبي بكر – رضي الله عنهما – صاحب المخابرات الصادق ليكشف تحركات العدو ويتعرف على خططهم ومكائدهم، ثم يأتي بالخبر إلى النبي- ﷺ .
وعامر بن فهيرة – رضي الله عنه – الراعي الذي يرعى بغنمه ويروح عليهما بالحليب الذي يشربانه.
ويخفي أثر مسير عبدالله بن أبي بكر – رضي الله عنهما.
وأسماء بنت أبي بكر الصديق “ذات النطاقين” – رضي الله عنهما – لتحمل التموين والطعام من مكة إلى الغار.
وعبدالله بن أريقط، دليل الهجرة، وخبير الصحراء البصير، الذي كان على أهبة الاستعداد ينتظر إشارة البدء من الرسول – ﷺ – ليأخذ الركب من الغار إلى المدينة.
خامسًا: أن المحافظة على كتم الأسرار من أسباب نـجاح العمل.
ظهر ذلك جليًّا في هجرته – ﷺ – حيث لم يعلم أحدٌ من الناس بالوقت المحدد للهجرة إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر الصديق – رضي الله عنهم.
سادسًا: وجوب أداء الأمانات إلى أهلها ولو كانوا من الأعداء أو من غير المسلمين، فعندما أخبر النبي – ﷺ – علي بن أبي طالب بموعد الهجرة، أَمره أَنْ يتخلَّف بعده بمكة حتى يُؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس.
سابعًا: أن نتعلم أن التفكير في حل المشكلات، والخروج من قبضة الأزمات هو الموقف الصحيح وليس الإستمرار في تجرع مرارات المصائب، والبقاء في بوتقة جراحاتها المؤلمة، والاستسلام المميت لنتائجها السيئة.
ثامنًا: أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرًا منه: فإن المهاجرين لما تركوا ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم؛ أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملَّكهم مشارقها ومغاربها وأعادهم إلى مكة فاتحين.
تاسعًا: حماية الله لأوليائه، وعنايته العظيمة بهم، وتوفيقه الكبير لهم، فأبو بكر يُلدغ من أفعى سامة ويبقيه الله رفيقًا لنبيه – ﷺ – أن يموت من سم تلك اللدغة.
والمشركون يبحثون عن النبي – ﷺ – وصاحبه في كل سبيل، حتى وصلوا إلى باب الغار، فلما وصلوا أعماهم الله عن رؤيتهما كما أعماهم عنهما ليلة الخروج من مكة.
عاشرًا: حين تكون الهجرة لله فرارًا بدين الله، تتصاغر أمامها شهوات النفس كلها، من المال والأهل والجاه والأرض وغير ذلك، وهذا ما حدث مع أبي سلمة وصهيب الرومي -رضي الله عنهما.
فلما هاجر أبو سلمة – رضي الله عنه – رفض أصهاره أن يصحب زوجته وابنه معه للهجرة، فانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة.
وصهيب الرومي – رضي الله عنه –
عندما أراد الهجرة اعترضه أهل مكة، وساوموه على ماله وتجارته، فترك لهم المال والتجارة وهاجر.
فلما علم الرسول – ﷺ – بذلك فرح به قائلا: “ربح البيع أبا يحيى.
ولهذا لم ينصر الله الإسلام في مكة لأنه أراد رجالًا يختارون الإسلام عوضًا عن أهلهم وأولادهم وأموالهم!
الحادي عشر: أن الإيمان بالله، والثبات على الحق، والصبر على المكاره، والكفاح في سبيله – كلُّ ذلك يستلزم النصرَ بإذن الله.
الثاني عشر: حب الوطن.
تمثل ذلك: في مشهد من مشاهد الحزن والألم، عندما وقف – ﷺ – على مشارف مكة لِيُلقي النظرة الأخيرة على وطن الطفولةِ والذكريات، متأثرًا لمفارق وطنه، فيلتفتُ إليه ويُخاطبه خطابَ المحبِّ له ويقول: (أما والله إني لأعلم أنك أحب بلادِ الله إلي وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)
الثالث عشر: أن أحداث الهجرة المباركة أثبتت أن للمرأة مكانتها العالية في الإسلام، ظهر ذلك جليًّا في موقف عائشة بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – حيث حفظت أحداث الهجرة وبلَّغتها للأمة الإسلامية.
وموقف أسماء بنت أبي بكر الصديق “ذات النطاقين” حيث أسهمت في إمداد النبي – ﷺ – وأبي بكر بالطعام والشراب أثناء وجودهما في الغار.
وموقف أم سلمة هند بنت أبي أمية، فقد عانت الكثير في سبيل هجرتها إلى المدينة؛ حيث فرق المشركون بينها وبين زوجها وابنها سلمة.
الرابع عشر: أن الرسول – ﷺ – أول ما بدأ قام بتأسيس مسجد قباء، فمن المسجد إعلان الولاء لله الذي لأجله هاجروا ولأجله يبنون دولتهم بالمدينة. وهو الذي يصفه – سبحانه – بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}. [التوبة: ١٠٨].
الخامس عشر: أهمية المسجد ودوره في التربية والتعليم، وتوحيد الكلمة، ورص الصف، ويتجلى ذلك في أن أول عمل قام به النبي – ﷺ – بعد دخوله المدينة المنورة بناء مسجده.
السادس عشر: التنبيه على فضل المدينة وأهلها من الأوس والخزرج، فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة الرسول – ﷺ – وأصحابه إليها، ثم نصرة أهلها له، وبهذا ظهرت مزايا المدينة.
السابع عشر: ضرب الأنصار المثل الأعلى في الحب والإيثار لإخوانهم المهاجرين حين قدموا عليهم مهاجرين بدينهم، لا يملكون شيئًا، فقدم لهم الأنصار كل شيء.
لقد كان إيثارهم شيئًا خياليًا لا يصدق.
إن صنيع الأنصار سيبقى منار هداية وإشعاعٍ للإنسانية في تيه المطامع والأثرة والشحّ والإمساك ما أقبل ليل وأدبر نهار، ودُعي الناس للبذل والسخاء والإيثار.
الثامن عشر: أنَّه مهما طال بالمؤمنين أَمدُ البلاء، فلا بد وأن الله – عز وجل – جاعلٌ لهم فرجًا ومخرجًا.
التاسع عشر: ظهور سنة الابتلاء، فالجنة غالية، ولا تنال براحة البدن، بل بالمجاهدة في طاعة الله، والصبر على ذلك، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.[ آل عمران: ١٤٢].
فقد كان هَيِّنًا على الله – عز وجل – أن يصرف الأذى عن النبي – ﷺ – وينقله من مكّة إلى المدينة كما نقله منها إلى بيت المقدس ليلة الإسراء على دابة البراق في لحظة، ولكن شاء الله أن يبتليه ليكون قدوة لقومه ولمن بعدهم، وليستبين التمسك، ويتمحص الصدق، ويعظم الأجر عند الله، وليتعلم الدعاة إلى الله الصبر على ما يلاقون من الأذى في سبيل نشر الدعوة.
العشرون: جواز الاستعانة بغير المسلمين من ذوي الأمانة والخبرة في المجال الذي يتقنونه، حيث استأجر – ﷺ – عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلًا مشركًا خبيرًا بطرق الصحراء، ليدله على الطريق إلى المدينة.
وختامًا: هذه بعض الدروس والعبر من أحداث الهجرة النبوية المباركة، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها، ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النَّافعة التي يقصر دونها العد، ويكرم الله بمثلها عبدًا دون عبد.
فمن أراد المزيد فدونه كتب السيرة التي تناولت الهجرة النبوية
بشيء من البسط والإيضاح.
أسأل الله – جل في علاه – أن يرزقنا محبة نبيه – ﷺ – واتباع سنته، والعمل بما أمر واجتناب ما نهى عنه، والتحلي بخلقه الكريم، وأن يوردنا حوضه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب