نشرت صحيفة غران الالكترونية في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق 20 / 6 / 1437 هجري عن صحيفة سبق خبراً عن إحصائية بسيطة في حروفها ولكن المعنى كبير جداً عند من يهتم بما يعانيه الناس هنا ، و هنا أنقل لكم بالحرف بعض ماورد في الخبر : ( كشفت الإحصاءات الرسمية عن أرقام مخيفة تسجلها الحوادث المرورية في المملكة “يتمت” الأطفال و “رملت” النساء ، حيث تشير إلى 35 إعاقة جديدة يومياً ، و 20 حالة وفاة يومياً ، و وقوع أكثر من 1400 حادث مروري.
و بينت كذلك أن 30% من الحالات في المستشفيات من مصابي و ضحايا الحوادث المرورية ، و 80 % من الإعاقات الحركية المسجلة هي نتيجة الحوادث ، و أن 72 % من وفيات الحوادث المرورية في أوساط الشباب ، مع وجود 40 ألف مصاب سنوياً نتيجة الحوادث المرورية ) .
هنا أقذف بسنارة الفكر و أستلهم بها بل و استل من أعماق ذكريات الماضي البعيد حين كانت السيارات قليلة جداً و كان أصحابها في ذلك الحين يعبرون عما في خلدهم بعبارات قليلة يكتبونها على السيارات ، فمنهم من يعبر عما يعاني من حب و وجد فينعكس كل ذلك بعبارات موجزة تخطها أصابعهم على السيارات؛ منهم العاشق و من الحكيم و منهم الذين غلبتهم الهموم و من بين تلك الجُمل حكمة التصقت بذاكرتي جداً و هي ( القيادة فن و ذوق و أخلاق) عبارة جميلة جداً تحمل في طياتها كل الرقي و التقدم الذي تنشده الأمم و الشعوب و تسعى لنيله …
نعم القيادة فن؛ فكما يوقع الفنان و الرسام أو صانع الآنية الفخارية و المجسمات بصماته بكل تؤدة و تريث و تأنق ليخرج عملاً تهتز له النفوس طرباً ، ذوق رفيع و أخلاق عالية حسنة من التسامح و رحابة الصدر و حسن المعاملة و التنازل عن بعض حقوق السائق في الطريق الذي يشترك فيه الكل ؛ أخلاق كريمة تجعل الناس يقفون احتراماً لصاحب هذه الخصلة النبيلة … ألا نحب أن يكون كلنا ذلك الشخص ؟!
نعم فن بديع .. ذوق عالي … أخلاق فاضلة كريمة …
لماذا يتأنق الشخص و يقف أمام المرآة ليحسن مظهرة و يخرج أمام الناس و هو في كامل تأنقه و تألقه فتشير إليه الأصابع و تقول في حبوركم “هو ذو ذوق رفيع” ، ثم تكذب أفعاله تلك الأناقة الممتدحة قبل قليل بقيادة متهورة و أخلاق في القيادة لا تمت للهندام و المظهر الجميل بصلة ، جمال من الخارج و فراغ من الداخل تناقض عجيب …
و حقيقة لقد تفكرت كثيراً و أدرت بوصلة الفكر إلى اتجاه هذه القضية الشائكة و تساءلت .. ما الذي غير أخلاقنا التي عهدناها فينا قبل أن تبسط علينا الدنيا ؟!
و أمام علامات استفهام كثيرة بقدر مآسينا و أحزاننا في فقد من نحب لم أجد جواباً مقنعاً على تساؤلاتي سوى الجواب الأقرب إلى المنطق .. “إنه الغنى و الترف و النعمة التي فتحت و بسطت علينا فأنستنا أخلاقنا و ذوقنا الرفيع الذي كنا نفخر و نفتخر به .. نعم هي نعمة تحتاج منا إلى شكر و حمد المنعم و جميعكم إن أنصف سوف يكون هذا جوابه ، لقد أبطرتنا النعمة حتى صرنا لا نفرق بين ما ينفعنا و ما يضرنا ..
هذه المركبات هي وسائل مواصلات لقضاء حوائجنا بيسر و سهولة نعمة كبيرة لا يعرفها إلا من فقدها فلماذا جيرناها إلى أداة لقتل النفس و إزهاق الأرواح ..
ألم تهُلّكم هذه الأحصائية ؟! و هل نمر بها و عليها مرور اللامبالاة ؟! ما هذا النزيف الذي لم يستطع حكماء الأمة له وصفاً ، و الذي عجز المصلحون عن الخروج بحل لنزف شريان الحياة لشباب في عمر الزهور !! .. يذهب كل هذا هدراً دون طائل سوى إرهاب الدولة لبناء مزيد من المستشفيات لعلاج المزيد من ضحايا الغنى الفاحش .. و ليت الأمر اقتصر على المادة فقط فالمادة تعوض و لكن هذه الأرواح كيف نعوضها و الأمة في أمش الحاجة كذلك لهؤلاء الشباب …
الغريب أن هناك البعض ممن يعلقون كل هذا الجنون بالقضاء و القدر و يكتفي بقوله الله يهديهم و في الحقيقة الهداية لا تأتي إلى الشخص و تأخذه هكذا بل إن للهداية طرق معبدة واضحة يجب أن يسلكها كل من أرادها بصدق .. أولها الدعاء ثم الأخذ بالأسباب لبلوغها….
والله إني لأرثي لحال المصلحين الذين بحت أصورتهم التي هي كصياح في واد فيعود الصدى دون نتيجة و لقد جف الريق في الحلق و لاندري ما هو الحل لهذه المعضلة التي أخدت تتفاقم يوماً بعد يوم .
40 ألف مصاب سنوياً يا للهول بمعنى معاق … إرهاق .. نعم إرهاق للدولة؛ إرهاق للمجتمع؛ إرهاق للأسرة و إرهاق للمصاب ذاته ….
ألا يجب أن نتنبه بعد هذه الاحصائية المخيفة، ألا يجب أن نضع قوانين صارمة لمصلحة المجتمع لنوقف هذا النزيف في شريان الأمة.. أليست الأمة في حاجة لهذا الشباب الذي يقتل نفسه بلا طائل سوى الهوس والجنون والفخر الكاذب بأننا أمة تحسن قيادة السيارات ولو كان هناك فخر فيجب أن يكون لمن صنع السيارة وأعمل عقله وفكره لا لمن أقمحها في الحوادث المميتة.
وقد يقول قائل إن هذه المقالات والمواضيع مكررة وانا أقول حاولوا أن توقفوا إذاً هذا الجنون والاستهتار بالأرواح والأنفس وليتحمل كل شخص المسؤولية ويحكم عقله الذي وهبه الله اياه وميزه به عن سائر المخلوقات ولنكن راقين في قيادتنا لمركباتنا ،هنا نريحكم من تكرار هذا الموضوع ولكن بدون ذلك سنظل نكرر وننبه ما دامت أرواحنا تتردد في اجسادنا ولن نألو جهداً في هذ الامر فربما مع التكرار سيأتي يوم وتصلح حالنا وندرك بأننا مسئولون فنشمر عن سواعد الجد ونشحذ الهمم في البحث عن علاج ناجع لمرض الغنى والبطر الذي يكاد أن يفتك بنا فأن للغنى أمراض وهذا واحد منها بل أنني أجزم بأنه افتكها وأقواها في سحق الانفس وهدر الأرواح والمال الذي هو قوام الحياة وكنا من المفترض أن نلج في هذا الغنى بحكمة ونأخذه بحكمة ونصرفه بحكمة …
عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم))…
وفي الختام نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن ينور بصائرنا و أن يهدي ضالنا و يشفي مرضانا و يرحم موتانا و أن يردنا إليع رداً جميلاً ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى إله وصحبه وسلم .
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب