أخبرتُها أني افتقدتُ قلمها المنشور، وفقد القلم الطيّب بعد وجوده صعبٌ على نفس المتابِع مثل صعوبة عدّ هذه الأقلام على الساحة ابتداءً -أو أشد-! فالساحة تعجّ بالكلام من كل حَدَبٍ وصَوب، وبمختلف التسميات، لكن عدّ الكلام ذي الرسائل القيّمة والأهداف الساميّة، المذّكِر بسبب وجودنا في هذه الدنيا، والناشِر للوعي بحقيقتها، والـمُعين على فهم ابتلاءاتها؛ قليلٌ إذا قُورن بما سواه. أما هي فذكرت لي شأنًا من شؤون الحياة الصّارِف عادةً؛ وحُقّ لها الانصراف بصراحة، لكن يا صديقتي لابد من عودة قريبة.
أكثر ما أخشاه أن نقع في فخ ثنائية (إما / أو): إما أني سأفعل كذا أو لن أفعل من الأساس، إما أن أتفرّغ لأكتب أو لن أكتب… ولعل هذه الثنائية مَظهر من مظاهر المثالية التي يترقّبها بعض الناس، فينتظرون لما يريدونه وقتًا مناسبًا! ولَكَم أوقفتهم المثالية عن أشياء كان حقّها المبدئي محاولة.
لا أزال أذكر تلك التغريدة من سنوات، التي كتبها أحد الفضلاء؛ وما أحببتُها فتجاهلتها، إذ حدّد عددًا من الساعات المهولة -بالنسبة لي- لتخصيصها للقراءة، فإن نقص عنها المرء فليس بقارئ حقيقي! -أو كلمةً نحوها-. في وقتٍ ما من حياتي كانت لتؤثر بي هذه التغريدة كثيرًا؛ فتجعلني أحزم كتبي في صناديق وأُصرّفها، ثم أخبر أهل البيت أن نستبدل دواليب المكتبة بالمزيد من الأرائك والأثاث؛ طالما أني لن أكون تلك القارئة الحقيقية، لأني أعرف من نفسي أني لن أصل للساعات التي كَتَبها، على الأقل الآن! ولكن حمدًا لله أني وقفتُ على تغريدته في مرحلةٍ تصالحتُ فيها مع نفسي، وأني أقدّم وأبذل المتاح وما أستطيع، فلن أبيع كتبي ولن أستبدل مكتبتي ولن أتوقف عن القراءة لأني لستُ قارئة حقيقية بلغت الساعات المذكورة. وإنصافًا فإن لكلامه وساعاته توجيهًا صادقًا حسنًا؛ فمَن يبلغ تلك الساعات ليس كمَن لم يبلغها، ولكني أقود نفسي وأُعلّم مَن حولي وأدعو القرّاء للتأمل في الحكمة القائلة: “ما لا يُدرَك كُلُّه، لا يُترَك جُلّه!” فجُلّ ما نستطيعه فلنقدمه، مع نيةٍ صادقة للتحسين وعزيمة أكيدةٍ في الترقّي متى تيّسرت الحال.
أظن أن بعض الناس أو كثيرًا منهم لديه معايير عالية؛ إن لم يبلغها يُعرِض عن الأمر بالكلية! وعلى غرار هذا السقف العالي من الساعات القرائية: إرغام الكاتب نفسه بصفحات كثيرة؛ وإلا فلا ولن يكتب! أو أن يُلزم نفسه كتابة تلك المقالة الأنيقة الـمُدبّجة أو لن يكتب، أو تلك السلسلة الثريدية الطويلة من التغريدات أو لن يفعل! بينما الخطوة المنطقية التي تسبق وفرة الكمّ، أن الكثير يسبقه القليل الدائم، فـ”من يكتب القليل بشكل مستمر، بعد فترة سيخرج بالكم الكثير الذي يتطوّر” وقد تكون الأسطر القليلة والتعليقات اليسيرة ابنة وقتها هي ما يُبارك فيه ويُنتفع به. ففخ تلك الثنائية قد يعترض سبيل الكاتب من جانب التفرغ أو الكم أو الأناقة أو غيره!
يقول أ. أسامة الجامع في تغريدة قديمة: “مما يُعطّل من إنجازك ما أسميها (بالجاهزية القصوى) بحيث تريد أن تنجز أمرًا وتماطل فيه، لأنك تريد أن تكون مستعدًا تمامًا، ولأنك لا ترى نفسك مستعد (تمامًا) تؤجل الموضوع أكثر من مرة، ومَن قال لك أنك لتبدأ لابد أن تكون مستعدًا، ابدأ على أية حال والاستعداد يأتي تباعًا، فقط ابدأ”. وعلى نفع أثر هجر الجاهزية القصوى؛ فهذا الهجران لا يعني بحال أن نشرع في الكتابة متجرّدين عن المواد والأدوات الأساسية اللازمَين لمشاركة الناس فكرةً مكتوبة! أنا مع صديقتي التي ربما منعها استشعار مسؤولية القلم من استسهال الكتابة -ولو قلّت- حال انشغالها بصارف من صوارف الحياة، ومع كل مَن يرى أهمية تقنين الكتابة وعدم اقتحام النشر كل حين بجرأة متهوّرة لا همّ لها إلا البروز إلى الساحة؛ وأؤمن أن رفع حسّ المسؤولية بالقلم وأثره والدعوة للمراجعة قبل العَرض هو السبيل الأجدر للتقليل من كمية الهراء الموجود؛ ولكن علينا أن نُقدّر الأمور قدرَها دون أن نقع في فخ المثالية الزائفة، وأن نعي جيدًا أن مسلسل الحياة لن يقف عند صارف واحد. فكما لا ينبغي التفريط في الرّوية كذلك ما ينبغي لكاتب واعٍ أن يُفرِط في المماطلة.
صحيح أن “معرفة قيمة الكلمة وإدراك خطر الكتابة يجعلان الكاتب أكثر تجويدًا وأوفر حظًا من عمق المعاني، لطول التأمل وخشية الخطل، ولكنه إذا بالغ في الحذر وأفرط في التزام الصمت تمكّن منه داء الرهبة وصار سببًا في نضوب أفكاره وجفاف قلمه وخمود وهجه..” وهذا ما لا يريده مَن صحب القلم بعض حين، فكيف يريده مَن كان على الجادّة؟ نعم علينا أن نحرص على الجودة والقيمة والعبرة في كل ما نكتب، وهذا لا يأتي مع العجلة والاقتحام المتهور، بل يأتي مع فكرة نيّرة ثم تأمل ثم كتابة أولية ثم إعادة نظر وتدعيم ومراجعة، وكل هذا لا ينفك عن جودة في القراءة، فـ”إن جودة الكتابة بمقدار جودة موارد القراءة” وهذه الجودة القرائية لا تعني بالضرورة التفرّغ التام، ولا الساعات المثالية المهولة؛ بقدر ما تتطلب تركيزًا وربطًا وفهمًا حين ممارستها المتكررة وإن قلّت. فبدلًا عن الانقطاع رجاء التفرغ؛ فليكتب المرء ما يجيده ولو أسطرًا، ثم لِيبسُط إن بُسطت له الحال.
هذه البَسطة المنشودة وهذا السكون المترقَّب، لو تحقّقا مع مثالية الساعات والتفرّغ من الـمُهّمات؛ ستظل الكتابة غير مثالية دائمًا! و”القناعة بأنك مهما كتبت ستظل محتاجًا لإعادة الكتابة والتنقيح تهوّن عليك حبسة الكاتب”.
بل الاحتباس وتلكّؤ العودة -وكذلك التصحيح والتعديل- كلما مرّ بهما كاتبٌ مسلم عليه أن يستحضر ما يقابل هذا من كمال الله وكمال كِتابه؛ بينما كل ما سوى كتاب الله فهو دائمًا بحاجة إلى تنقيح وإعادة تأمل أو تغيير وتبديل. ونُسب إلى العماد الأصفهاني أنه قال: “إني رأيتُ أنه لا يكتب أحد كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن ولو زيد هذا لكان يُستحسن ولو قُدّم هذا لكان أفضل ولو تُرك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”. فهذا درسٌ للكاتب في التواضع والتعايش مع النقص وانعدام المثالية لظرف كتابته ونَتاجها، فلا كمال في الوقت ولا في الـمُنتج.
وللتواضع مكان آخر في حياة الكاتب؛ عليه أن يستحضره: فحين نتجرَّؤ على الكتابة لا يعني هذا أننا نرى أنفسنا الأفضل! ولكن الكتابة بطبعها طائرة؛ تصول في العقول وتجول في الرقاع، فما ينبغي لذي رسالة وقلم أن يتركها! وما أحسن ما برّر التوحيدي سبب تأليفه لكتاب بقوله: “في نظرائي وأشكالي مَن فهمه أثبت من فهمي، وذهنه أنفذ من ذهني، وحفظه أغزر من حفظي، وقلبه أذكى من قلبي، لكني آثرتُ أن يكون لي فيمَن دوني أثر كما كان لـمَن فوقي عندي أثر”.
ولأن صديقتي المنقطعة كتابيًا هي باعثي الـمُحرِّك لكتابة هذه المقالة؛ فإني أصرح لها ولمعاشر الصديقات طالبات العلوم الشرعية -وللقراء عمومًا- بهاجس يؤز للكتابة أزًّا! هاجس مدافعة الفاسد ومزاحمة الـمُبطل. ولتسأل كل واحدة نفسها: لماذا يجدون أوقاتهم للإفساد ولا أجد وقتًا لنصيحة مكتوبة؟ لماذا يبذلون جهودًا بأموالهم ولا أبذل كلمةً حسنةً بالمجان؟
وقد بدأتُ كتابة هذه المقالة بنسخ المقولة التالية الواصفة لنساء غربيات مفسدات: “وقد كان صبرهن على مداومة المطالبة أكبر من صبر غيرهن على مَطالبه، وكان لهن محاور عمل لِبثّ الوعي بين النساء حول…” قضية معينة ترى هذه الفئة من النساء معالجتها. هذا النوع من الصبر وتكرار المحاولة، هذا البذل في الجهود والأموال وما يتطلّبهما من الأعمار؛ اتساءل ما نصيب ذوي الأقلام في مدافعته؟ كم من الصفحات يا صديقاتي قد كتبناها تحت وطأة الانتهاء من الدراسات العليا وتكاليفها الـمُرهِقة؟ ألا نستطيع بعد أن تدربّنا على الكتابة البحثية المطوّلة أن نخط أسطرًا للتذكير بواجب، أو للتوعية بمحرم، أو للتحذير من انحراف؟ أو ليكن ما يكن من أبواب الخير والبرّ المتنوعة، في الدنيا والآخرة. وقد ختمت أ. هناء الصِّنيع كتابها (بداية كاتبة) بقولها: “اكتبي.. فاليهودية تكتب.. والنصرانية تكتب.. والمنافقة تكتب.. أفلا تكتب المؤمنة؟!”.
أسأل الله ألا يحرمنا فضله، وأن يُعيننا على أنفسنا ولا يكلنا إليها، وأن يوفقنا لشكر نعمه وأداء حقّها على الوجه الذي يرضيه عنا.
جمانة بنت ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب