سبيل الوصول من خبايا السطور

في الثانية عشرة والربع ليلًا أفقتُ بعد مباغتة يسيرة من النوم وأنا على كتابٍ موضوعه عن الفكر النسوي الذي أبغي تسجيل رسالتي العلمية العقدية في شأنٍ من شؤونه، ولكن دون تخطيط مسبق لهذا اليوم ولا لليلته تيقّظت رغبتي في البدء بمقالة تُبرز شيئًا من مكنونات دورة (خبايا السطور الخالدة) للدكتور سليمان العبودي، التي حضرتها قبل أسبوع.

هذه المقدمة لا يعترض عليّ أحدٌ بعدم ملاءمتها؛ فقد تعلّمتها أولَ مرةٍ حين اندهشتُ بقراءة (صور وخواطر) ثم (من حديث النفس) للشيخ الطنطاوي -رحمه الله- فإنه يذكر من الظروف المحيطة بكتابته لمقالاته شيئًا مثيرًا للانتباه، ومُقربًا للمسافة الفاصلة بين الكاتب وقارئه. والجميل أن هذا الأسلوب مما أكّدته دورة الخبايا، فقد أوصت بتدخل الكاتب في نصه عدة مرات، كأن يُعلّق بانطباعاته بعد اقتباسٍ يورده في الكلام ليخدم فكرته، ومرة أخرى بأن يكتب ما يختمر في نفسه من معانٍ حول الموضوع ولا يعلمه سواه، وثالثة حين يُدوّن تلك التأملات التي صاحَبته في مواقف الحياة المختلفة، وأنها ذات أثر في فتح باب الإنشاء وسريان القلم واطّراح الكلفة. كل هذا شريطة أن يتم هذا التدخل الذاتي على حذرٍ، وبِقَدَر، مع مراعاة السياقات والمقامات. كانت هذه الجزئية من مواضع الجمال والأنس.

أما على صعيد البهجة والسرور اللذَين يبعثانِك حينًا من فَرْط استيلائهما على النفس أن تقول: “الله أكبر!” ذلك حين تطرّق المحاضِر لأثر اتصال الكاتب بالقرآن الكريم، وأدرجه كأول نقطة تحت محور أسماه (القراءة المنتِجة)، فحُسن الصّلة بالكلام الخالد الذي بلغ المنتهى في الحسن أسلوبًا ومعنىً؛ لا ينبغي أن يزهد فيه مَن أراد حمل القلم في أمتنا! وعزّز هذه الفكرة بتكليفنا قراءة صفحات من (المثل السائر) لابن الأثير -رحمه الله-، وموضع الشاهد فيها قوله (1/100): “وحديث الطريق -أي طريق تعلم الكتابة- ينقسم إلى ثلاث شعب: الأولى أن يتصفح الكاتب كتابة المتقدمين، ويطّلع على أوضاعهم في استعمال الألفاظ والمعاني، ثم يحذو حذوهم، وهذه أدنى الطبقات… الثانية: أن يمزج كتابة المتقدمين بما يستجيده لنفسه من زيادة حسنة، إما في تحسين ألفاظ، أو في تحسين معان، وهذه هي الطبقة الوسطى… الثالثة: … يصرف همّه إلى حفظ القرآن الكريم وكثير من الأخبار النبوية، وعدة من دواوين فحول الشعراء ممن يغلب على شعره الإجادة في المعاني والألفاظ، ثم يأخذ في الاقتباس من هذه الثلاثة.” فلا تستعجب بلوغ السرور أوجَه إن كانت بركة القرآن تنال الكاتب متى قصده طالبًا حسن البيان.

 وأما النقاط التي كانت جديدة كل الجدّة عندي، وأحسب أن تطبيقها سيستغرق ردحًا من الزمان: ما كان على سبيل افعل أو لا تفعل، كحثه ألا تبدأ المقال بنقل أو اقتباس، وكذكره مقترحات لِسَوق الاقتباس في ثنايا الكلام يعزز من قيمته. في حين أني لم أعهد هذه الإلزامات سابقًا؛ فكنتُ أكتب كيفما اتفق، ولا أراعي عند المراجعة إلا أخلاقياتٍ وأهدافَ أشترطها على نفسي، فإن توفرت لم ألتفت إلى قائمة افعل أو لا تفعل في عالم المقالات، وأقصر التفاتتي إليها وحرصي عليها في عالم الأبحاث وتكاليف الأكاديميات.

 ومن مواضع الثناء التي يُشار إليها في لقاءات الخبايا -الثلاثة-: أنها كانت تُعلّمنا كمتدربين (الواقعية)، فيمكنني أن أصّنف قول الدكتور: “لبناء قاموس لغوي للكاتب، أفضل قاعدة للانتفاع هي: الوقوف على الوحدات الصغيرة” بمعنى الوقوف والتأمل للكلمات والأبيات والمقاطع اليسيرة بشكل دائم يُعوّد على الاتصال بالكلمات والاستخراج منها، بدل الكم الكبير. وكذلك قوله: “لخّص ما تقرؤه” أراه تجليّا واضحًا للواقعية القريبة من التطبيق للمتدربين، فليس بالضرورة أن يكون المكتوب إبداعًا جديدًا من كل وجه، ولا خيالًا محضًا في كل حين! وإنما من سُبل الكتابة والتدرب عليها أن يحرص الحريص على ممارسة التلخيص لما يقرأ، ثم يصوغه كما يشاء، مع مزيد. ومرة ثالثة قد كان المحاضِر واقعيًا حينما صرّح لنا أن التأمل إنما يصلح إذا سبقت الحصيلة العلمية الكافية ذهن القارئ قبل أن يتأمل الموضوع. وغيرها من الأفكار التي يمكن تصنيفها تحت واقعية النصائح المطروحة.

 لا يمكنني إنهاء المقال قبل أن أُشيدَ بالنَّفَس العَطائي للدكتور سليمان، فلا تكاد تخلو شريحة من إحالةٍ لمقال أو كتاب، ولا فقرة من كلام كاتب مشهور يعزز الأفكار التي قُدّمت في الدورة، مما يجعل عنوانها مُطابقًا لفحواها، فهي بهذا العطاء والاستعراض حقًا (خفايا السطور الخالدة)، فلا أكثر من أن نتعرف على الكتابة من خلال: ابن الأثير، والخطيب البغدادي، وابن تيمية، والمعلمي اليماني، والرافعي، ومحمود شاكر، والطناحي، والمازني، والزيات، وغيرهم، رحم الله الجميع. على أن هؤلاء الأعلام ما ينبغي التفكير في أساليبهم، والتضييق على النفس أولَ الأمر في متابعتهم، فهذا مُشتِت للذهن وخانقٌ للعبارة! وإنما التوجيه كما عُلّمناه: أفرِغ ذخيرتك كاملة، ثم بعد ذلك راجعها أو انقدها أو خمّرها أو اعرضها على مشرحة الأصدقاء الناصحين أو ما شئت من الأساليب، المهم أن البداية لها الاسترسال، ثم أتبِعها بالقدر اللائق من التنقيح والتمثيل والبرهنة وإعادة النظر.

 لستُ متأكدة لمَ شَرَعتُ في الكتابة بعد أن كنتُ أقرأ ما لا علاقة له بكل هذا! لعل أقرب تفسير أن من أواخر ما قرأتُه قبل أن تهجم عليّ تلك الإغفاءة، وصف المؤلِف لإحدى النسويات المؤثرات بـأنها “كانت تنظم الشعر وتريد أن تكون (كاتبة) يشار إليها بالبنان. وبالفعل ذهبت هذا المذهب وراحت تضع المقالة تلو المقالة وتنشرها في صحف محلية، ثم ما لبث فضاؤها الأدبي أن اتسع وارتفع اسمها مثيرًا حوله الغبار والجدال والسجال.” هذه أشد السطور قُربًا من موضوع دورة الخبايا كما يظهر، وهي وإن كانت حالةً من الحالات التي لا يرجو مسلم لها التأثير؛ لما جمعه ذلك القلم من إثارةٍ للشبهات ونشرٍ لسيلٍ من الشطحات المبنية على تجربة شخصية أليمة، آلت بصاحبتها أن تلج عالم الإبداع الأدبي لتوظيف قلمها لما تظن أنها به تُحسن صنعًا، وليست كذاك! مع هذا فلعلنا نأخذ العبر المرتبطة بالموضوع، وهي أن من التوصيات للكتابة: توفر الإرادة، وتكرار المحاولة، والأهم وجود الرسالة التي تسرّ في الدنيا والآخرة.

 صارت الساعة الواحدة والنصف ليلًا، ولم أتوقف خلالها إلا دقائق معدودات! سأكتفي بهذه الخبايا وأُغلق المقال لأخمّر التفكير في حروفه ووضوحه إلى الغد. ولكني أنهي حديثنا هنا بأن أؤكد عليك ألا تستكثر التعرّف على السبيل؛ فلطالما كان أسلوب البيان سببًا في قَبول كلام والزهد في آخر! فاللهم إنّا نسألك من فضلك.

جمانة بنت ثروت كتبي

 

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *