فاتحة:
(*) (نصوصك)…
تأخذني إلى حيز الملكوت..
تلهيني عن شيء أسميه:
(عاجل جداً)..
ليكون هو الأول..
والأعجل..
(**) و(نصوصك)…
تكتبني من جديد..
تفتش في عالمي..
عن عالم مسكونٍ بالدهشة..
والوحشة..
والمستحيل!!
أتنامى نحو فيوضات إلهاميَّة..
وأغوص.. أغوص.. أغوص:
بحثاً عن در مكنوز في بحره..
ولآلئ.. لم يبحث عنها غيري!!
فلعلِّي:
بين سطور الغيم..
وفضاءات الدهشة..
أعلن مثل (أرخميدس):
وجدتها.. وجدتها!!
* * *
(***) و(نصوصك)…
تتعالى نحو نجيمات لم يرصدها (المقراب)…
وجزر تنأى عن أقدام المكتشفين..
وبيادر قمح لم (يدرسها) أحد – قبل الأن!!
سأحاول..
مهما كان الموج شديداً…
والنجوم بعيداتٍ…
والأمطار سيولاً…
والضوء..
– وإن كان بعيداً –
سوف أراه!!
* * *
سيكون من الصَّعب..
فك مغاليقه..
وحلحلة (صواميله)..
ولكن…
سأجد المفتاح:
شفرات..
ودلالات..
فيها يكمن فنُّ التأويل!!
* * *
(2) في مجموعات (ثلاثة).. أستطيع تسميتها (ثلاثية الدهشة والوحشه والمستحيل) للكاتبة/ الناصة والأديبة والناشطة الثقافية خديجة إبراهيم تطلع علينا حروفاً من الغيم.. وزنابق من دهشة.. وتراتيل من نجوم وهي تحمل العناوين التالية:
-
- مدارج دفء 1436هـ/2015م؟
- معزوفة تراوغ الصمت 1439هـ/2018م.
- مواسم تشتهي ظلها 1444هـ/2003م.
وقد اختارت لها جنساً أدبياً فأسمتها (نصوص).
وهنا لنا وقفة نقدية نستبطن فيها دلالات هذا الجنس الأدبي الجديد، التي أخذت نماذجه الأدبية ترتاد وتكتسح مشهدنا الثقافي/ الكتابي من ناشئة الأدب وشداته في بداية حياتهم الأدبية، فهم يتناسلون من حقل الشعر أو حقل النثر/ القصة، فلا هم شعراء حسب التقاليد الشعرية، ولا هم (قصاص) حسب الموروث القصصي، ولكنهم بين هذا وذاك (ناصون) أو (نصوصيون) يحملون لغة شاعرة، وآفاقاً أدبية حالمة، ورؤى إبداعية متجددة، فيسمون ما ينتجون (نصوصاً) ويصدرونها للقراء على أنها مزيج أدبي عابر للأجناس المتعارف عليها، ولكني أراه إلى الخواطر الأدبية أقرب وألصق!!
والـ(نصوص) – في تصوراتنا النقدية – هي أحد منجزات الحداثة وما بعدها، حيث طرحت أفكاراً مهمة، منها إمكانية التلاقح بين الأجناس الأدبية المختلفة، على اعتبار أن الجنس الأدبي – يعني – فيما يعنيه المشاكلة والتي هي أعم وأشمل من النوع، فتصبح بذلك عاملاً نصياً يمنح النص قدرة التشكل بين ما هو سردي وما هو شعري، أو كما يقول أحد النقاد (شعرنة السرد) و(سردنة الشعر)1.
وبعد كثير من الدرس والتحليل فيما قاله النقاد، أرى أن (النصوص) كجنس أدبي يتوالد من عوالم أدبية مختلفة/ متمايزة، متشاكلة، ليتحول إلى جنس أدبي جديد محدث يتماهى بين الخاطرة/ كفكرة وموضوع، والشعر/ كلغة نابضة بالموسيقى والشعرنة، والسرد/ كخصائص أسلوبية فيها النثر منسجماً مع ما حوله من جماليات.
ومن هذا كله أستطيع القول إن (النصوص) – إذا سلمنا أنها أحد أجناسنا الأدبية المعاصرة والحديثة – ما هي إلا انثيالات لغوية نفسية عالقة بين جمال اللغة وشعريتها، وحرية الأسلوب!! ولكي تتحقق هذه (النصوص)، لابد من اكتمال العناصر والمعايير الجمالية التي تحكم وجودية هذا الكائن الجنسي الجديد، وهي: الربط، التماسك، القصدية، المقبولية، الإخبارية، الموقفية2.
ومن هذا التأطير النقدي لمسألة الأجناس الأدبية، وتبنيها لمفهوم العتبة الدالة على الجنس والنوع الجديد المسمى (نصوص)، كمصطلح أدبي آخذ في التنامي والموثوقفية القرائية، نصل إلى مدارسة أحد الأعمال الأدبية الثلاثة التي أبدعتها الناصة/ الكاتبة3 خديجة إبراهيم التي أشرنا إليها في أول المقال/ الدراسة.
* * *
(3) وبعد مطالعة الأعمال الثلاثة لهذه الكاتبة/ النَّاصَّة، وجدنا أن المجموعتين الصادرتين عام 1436هـ، وعام 1439هـ، تمثلان ركائز أوليَّه، ومنطلقات فنية نحو التميٌّز والتشاكل مع مثيلاتها من (النصوص) المعاصرة والمجايلة، وفيها اكتنازات جمالية، وتكاثيف لغوية، واستجابات شاعرية تنبئ عنها بعض (النصوص) المركزية، التي رأيت أن أختار واحدة من كل مجموعة تعريفاً بها، وتأكيداً على التجارب الأولية لمسيرة هذه الكاتبة/ النّاصة!!
فمن المجموعة (النصوصية) الأولى الصادرة عام 1436هـ، نقف عند نص بعنوان: (بعثرة وبعض إرباك)4، حيث نجد الكاتبة/ النَّاصَّة تقسم نصَّها إلى (خمسة مقاطع) مرقمة من 1-5، وكل مقطع يفضي إلى ما بعده في تراتبية (نصوصية) تكاملية، ويتضح فيها ضمير المخاطَبْ (بالفتح) والمخاطِبْ (بالكسر)، ضمير الأنا والآخر!! كما يتضح فيه تلك الحوارية (النصُّوصيَّة) بين ذات مسيطرة، وذات مستلبة، كما تتضح فيها تعالقات عاطفية مشحونة بالأسى والحيرة والضياع، وكل هذا في لغة شاعرية، وأساليب بيانية/ بلاغية، فيها اجتراح للغة وتوليد فني/ إبداعي، وتخصيب للمعاني والدلالات!!
ومن فضاءات (النص) نقف عند بعض المقاطع كشواهد واستلهام ثقافوي، تقول الكاتبة/ النَّاصَّة:
” أعلم أني مهووسة بأدق تفاصيلك
من نبرة صوتك وابتسامتك ورائحة عطرك
…
…
قتلني شعوري بالفقد
هل جربت هذا الشعور؟!
لا أعتقد ” المقطع (7) ص ص 40-41
وتقول:
” أحببتك/ كأن لم يخلق الحب إلا من أجلك
ولن تحبك امرأة مثلي.. مكبلة بخطواتك..
بكل ما يحمل طيفك إليَّ/ رسائلك.. مكالماتك..
وساعات انتظاري ” المقطع (3) ص 42
وتقول:
: أعذرني إن التقينا وبدوت باردة كتمثال من الجليد..
ولم تشرق الشمس من عيني/ وإن مددت يدي لأصافحك
رجاءً أعدها إليَ سريعاً/ وإن بدت نظراتي تائهة
لا تطلب مني أن أحدق إلى عينيك/ وإن تلاشت الحروف
على شفتي دعني صامتة…/ وإن استعجلت الرحيل فودعني
بهدوء/ وتمنَّى لي السلامة/ فالكراسي ملّت الانتظار ” المقطع (5) ص44
في هذه المقتبسات (النَّصيَّة) نكتشف أنها مداولات وجدانية، ذاتية/ بكائية تستبطن مواقف وتجارب بين ذاتين بشرية، إحداهما امرأة مستلبة، والأخرى رجل استبدادي!! وهكذا هي الحياة صور ونماذج وخيالات بين الواقع والمتوقع ….. فلله در الكاتبة/ النَّاصَّة وهي تقدم كل ذلك في جماليات لغوية وأسلوبية شاعرية!!
ومن المجموعة (النصُّوصيَّة) الثانية الصادرة عام 1439هـ، والموسومة بـ/ معزوفة تراوغ الصمت، نقرأ (نصاً) مغرياً بالتداخل والمثاقفة والتأويل، ذلك أنه يحمل (جملة مفيدة) تحولت من داخل المتن إلى خارج المجموعة/ عتبة نصٍّيَّة أو نصاً موازياً دالاً ومهيمناً على المجموعة بكاملها5، إلا من تعديل طفيف!!
نقرأ (نصاً) توحي مفرداته بالجزالة والجمال، حتى إنني كتبت على هامشه – بعد التماهي معه قراءة ومثاقفة – هذه العبارة: “فعلاً معزوفات رائعة، في لغة عاطفية وجدانية شائقة”!!
لقد تكررت كلمة (العزف) ومرادفاتها – مثل: الناي، الغناء، معزوفة، تواشيح، يترنم، – (إحدى عشر) مرة ومنها سطر في (النص) جاء فيه:
” فأغدو كمعزوفة ظلت تراوغ السمع
وأتوه في مدى الصمت ” المقطع (11) ص 14.
من هذا السطر/ الجملة المفيدة، كان التحول والترقي إلى عنوان للمجموعة (النصُّوصيَّة) بكاملها مع بعض الحيل الأسلوبية والجمالية ليصبح العنوان (معزوفة تراوغ الصمت) ويحمل في طياته ودلالاته الكثير من المعاني والإيحاءات.
و(النَّص) الذي نحن بصدد مقاربته وتأويله نقدياً، لا يبتعد كثيراً عن (النَّص) الذي اخترناه من الديوان الأول، حيث الفضاءات الوجدانية والذاتية، والتعالقات الثنائية بين المرأة المسكونة بالفقد والأمل، وبين الرجل المنحاز لعوالم خاطئة من القيم والمثل.
ويكفي للدلالة على هذا التصور الواقعي/ والمجتمعي المقطع (4 من النص) ص11 تقول:
” حين خبأت يدك في يدي
ودسست أصابعك في تجاويف قلبي
هل أخبرك النبض بأن الكون يقع عند أطراف أصابعك؟!
رعشة أحتلتني
ومنذها والشوارع تتسكع في أوردتي..!
من قال أن البحار لا تغنِّي
من قال إن الليل لا يهجع ”
وفي المقطع الأخير (13 من النص) ص15 تقول:
” ساحرة تلك اللحظة التي تأتي بك
أنت وهذا العطر الذي ينهمر/ لا ليل يهدأ ولا نهار يكف
عن الحنين… ”
بهذه المعطيات المقتضبة، يتأكد لنا وللقارئ أن الكاتبة/ النَّاصَّة، تؤسس لنفسها كياناً إبداعياً وجدت نفسها فيه، وهو مجال (النص الإبداعي) أو (النٌّصوص) التي تأخذ بمجامع الجمال اللغوي والأسلوبي، لكي تنطلق من هاتين التجربتين الأوليتين إلى مزيد من النضج (النُّصوصي) الذي تشكلت ملامحه في المجموعة الثالثة والأخيرة – حتى الآن – وهي التي سنخضعها للدراسة والمثاقفة لأننا وجدنا فيها خلاصة التجربتين السابقتين.
والمجموعة – التي نقصدها – هي الموسومة بـ(مواسم تشتهي ظلها) الصادرة عام 1444هـ6. ولعل مدخل (النُّصوص الموازية) أو العتبات النَّصيَّة – النقدي، يسعفنا بالتداخل مع هذا الإبداع (النُّصوصي)، على اعتبار أن عتبة العنوان هي المفتاح السحري لمكاشفة المجموعة وتشظياتها الجمالية واللغوية والأسلوبية.
في النص الأول (عن جدة)7، نقف عند مقطع تقول فيه الكاتبة (النَّاصَّة) (خديجة إبراهيم):
” وأنت تعبر جدة/ دون على نوافذها/ حكاية الحلم/ الذي مافتئ يكتبك/ وارسم في عينيها مواسمك التي تشتهي ظلها وغن../ غن لعينيها/ فهي تعشق من يفك شفرة موجها/ ورقصة نوارسها..! “8.
– يلاحظ هنا أنني كتبت النص بطريقة سطرية/ أفقية، وليست كما كتبتها الكاتبة/ النَّاصَّة طريقة رأسية/ عمودية، وهذه من الطرائق والأساليب الكتابية لـ(النُّصوص) النثرية– ولكن المهم هنا في هذا المقطع ورود الجملة التي تحتها خط، والتي تحولت إلى عنوان/ عتبة نصية أولية للمجموعة، وفي هذا دلالة على تشظي العنوان عبر منظومة (جدة) المدينة الفاتنة الساحرة، التي تطلب الكاتبة/ النَّاصَّة من قرائها أن “نهمس لشواطئها بوجداننا/ ولموجها بشغفنا/ وأن نسلم على عشاقها، وأن ندوِّن على نوافذها حكاية الحلم/ وأن نرسم في عينيها [المواسم التي تشتهي ظلها]، وأن نغني لعينيها!!
أذكر أنني غنيت جدة، وتغنيت بها ذات قصيدةَ!! قلت فيها:
“غنيت مكة فاهتف أيها الشادي وغن مثلي فهذا عيد مــــــيلادي
وهذه جـــــدة الفيحـــــــــاء – غانيــــــة تسربلت بالسنا في كف صيّاد
فديـــــــــــت شاطـــــــئها باباً ونافـــــــــذة على الجديدين في جمع وإفراد
أهواك يا جدتي بحــــــراً ويابســــــة فيها سكبت مووايلي وإنشادي “9.
ولأن (جدة) تستحق الغناء والتغنِي فإن النَّاصَّة/ خديجة إبراهيم، تفتتح مجموعتها بهذا النص، حيث تجيء (جدة) المكان، بوصفها بحراً، وشاطئاً ونوارس، وأمواج، وأنغام، ورواشين، وحواري، وشوارع مزدحمة، وعشاق لها، ونوافذ، وليلها الفاتن، وهذا يعطي دلالة على قيمة المكان، وقابليته للتحول إلى نصٍّ إبداعي مكتوب ومقروء في نفس الآن، عبر جماليات لغوية، وأسلوبية، وشاعرية!!
وتأكيداً على المكان/ جدة/ واحتضانها كنصٍّ يحمل جزئية العنوان/ العتبة/ المفتاحية، تجيء في نصٍّ آخر في آخر المجموعة بعنوان: جدة التي لا تنام10. وفيها نجد البعد الثقافي الكبير بين الكائن والمكان. الكاتب/ النَّاص والموضوع الشعري النَّصي/ خديجة إبراهيم وجدة/ الحضارة والجمال:
” في جدة ترقص الحياة..
تنبض الشوارع..
يتغنى الليل.. “11.
وفي هذا النص، نجد الموسيقى، الغناء، العبور إلى عوالم جدة، الماضي وشغف العراقة، الساحرة، الشواطئ!! وكل هذه ثيمات لغوية إشارية إلى ما تكتنزه جدة/ المكان من جمال وتعالق روحاني.
واختيار الشاعرة/ النَّاصَّة لهذين النَّصين عن جدة، أحدهما في أول المجموعة، والآخر في ختامها، يجعلنا – كقراء ونقاد – نتماهى مع هذه الدلالة المقصودة أو اللاواعية، فالمجموعة كلها بين قوسين، ينتميان موضوعياً إلى جدة المكان/ الحضارة الجمال، وبينهما يتم الحراك الكتابي/ النُّصوصي ليكتمل العقد في (ثلاثين نصاً) كلها موحية بهذه المدنية الساحرة وإنسانها المحبوب!!
وتأكيداً على هذا التعالق الحسي والمعنوي بين الكاتبة/ النَّاصَّة، والمكان الأثير لديها (جدة)، وجدنا دلالات وثيمات وإشارات تحيل إلى هذا المكان/ الذي احتل فاتحة المجموعة النُّصوصيَّة، ومنها جاء العنوان/ العتبة الموازية!!
وهذه الدلالات والإشارات تتمحور في كلمات ومفردات دالة وموحية من مثل:
فنار، نوارس، شواطئ الأمان، (ص20)، موج البحر ص23، الشواطئ، المد والجزر ص34 وغيرها مما لم تحصره الدراسة وتستقصيه المقاربة!!
* * *
(4) وبعد (العتبة العنوانية) وتشظياتها داخل (النُّصوص) تباغتك الكاتبة/ النَّاصَّة بأفق تصويري يكمل المقطوعة (المكانية) وهو الإنسان المتماهي مع المكان. الإنسان في كينونة الرجل والتعالق الروحي بينه وبين نصفه الآخر/ الأنثى سواء أكانت الكاتبة نفسها، أـم الأخريات اللواتي يتقمصنها مجتمعياً حال التوليد الكتابي.
إن التعالق الأنثوي بالرجل، والذوبان فيه إحدى معضلات (النصوص) (النسوية)، فلازال (الرجل) هو المبحوث عنه، هو المفقود، هو المرغوب والمطلوب، هو الأس والمركز، وحوله تدور حياة الكائن الأنثوي.
نجد هذه التعالقات بين المرأة والرجل/ الأنثى والذكر في كثير من نصوص المجموعة من مثل:
نبض الطين ص11
حلم ص18
منار مطفأ ص20
متوجاً بالقصائد ص21
حيثك ص24
بحر ص33
هديل صوتك ص34
كتف الأيام ص50
صمت الأماكن ص64
علي ص90
ولعلنا نقف على صور تلك التعالقات ورمزيتها ودلالاتها في بعض (النصوص) المذكورة أعلاه، ففي النص الذي يحمل عنوان: (كتف الأيام) ص ص 50-53، ويحمل رباعية نصوصية، وتبدو فيها ثنائية الأنا/ الأنثى، و(الهو)/ الرجل، والحراك التعالقي بين ذاتين في انسجام وتوأمة قلبية/ روحية لدرجة الذوبان والتلاشي، فالضمائر التي تشير إلى (هو) طاغية وأكثرية عن الضمائر المشيرة لـ(الأنا):
” الزهور التي تمنحها عطرك، لتعبرك إليَّ في كل رسالة تبعثها… حينها تغفو الحياة وهي بجانبك متكئة على حلم مزهر بك “12.
هذه الضمائر المشيرة لـ(الرجل) الـ(هو)ـ ما تحته خط = 6 ضمائر والضمائر المشيرة لـ(المرأة) الـ(أنا)/ الأنثى، ما تحته خطين = 1 إذاً الـ(هو) مهيمن وأس ومركز!!
” إنها العاشرة يا سيد الأمنيات
ماذا تركت للشمس كي تشرق على وجه الصباح
ماذا تركت للعصافير من أغنيات”13
إنه (سيد الأمنيات) الرجل/ الـ(هو) ولا وجود للأنثى (الأنا) في هذا المقطع!!
ونجد هذه الثنائية التعالقية بين ذات الأنثى/ وذات الرجل، متجسدة في النص الموسوم بـ/ صمت الأماكن14، والتي جاءت في 26 مقطعاً نصوصياً، تبدو فيها المرأة طالبة، شاكية، متوجسة، عاشقة، مندمجة حد الذوبان في الآخر (هو) (الرجل):
يقول (النص) في بعض مقاطعه:
” خذ ما تبقى من زهر العمر..
وهات بسمة على شفاه/ السنين الواجفات” ، المقطع (1).
” ومضيت تسلو والدروب مكائد
والمدى بك يضيق : ص18ـ المقطع (5).
“يـأخذنا الحنين لمن كانوا يحتلون مساحة من القلب
وفي لحظة جرح منهم تأبى الكرامة أن تنحني…” ص9 المقطع (6).
” تلك اليد التي مافتئت ترتب النَّبض وتبعث في صبحنا الأغاني/ قدر علينا أن نجتاز هذه الفيافي برفقتها ” ص7ـ المقطع (7).
” أمضي والحبل المعقود/ على عنقي يشدني للخلف
يديرني باتجاهك/ أغمض عيني حتى لا أراك
تخترقني/ أهرول بالخطى فأتعثر بك/ أهرب
من المرايا/ فأراني بعينيك ” ص72، المقطع (9).
” نظرة واحدة للخلف كفيلة بأن تجعل السماء تمطر.. أعرها
لفتة منك/ تتوسد ذراعك، ويحتفل الغيم بك” ص74ـ المقطع (11).
” قدري الذي جمعني بك/ كم أحبه/ يا قمراً أضاء ليل شجوني
ما كنت أهاب العشق/ إلا في حضرتك ” ص77، المقطع (14).
” وأغتسل بك/ بأنفاس اللهفة وهي تخترق صدر الوقت” ص80، المقطع 17.
” هذا الوجع المحبب منك..
بحجم اللهفة التي سبقت أنفاسي إليك..” ص84، 85.
هذه الانثيالات النُّصوصيَّة الممتزجة بالذات الأنثوية، المتحدة بالذات الذكورية (الرجل)، تؤكد ما بدأناه من الانصهارية والتبعية التي تعيشها الأنثى في تعالقاتها مع (الرجل)ـ تصورها روح نصوصية أنثوية هي خديجة إبراهيم؟!
ومع هذا، فإني أعتقد أن هذا النص هو (المركزي) الذي تتوزع معانيه ودلالاته في باقي النُّصوص القبلية والبعدية، لأسباب عدة: أولها أنه أكثر (النُّصوص) مقاطعاً، حيث بلغت (26) مقطعاٌ، وثانيها أنه يكتنز على أيقونات تفاعلية بين الذات الأنثوية ومقابلها الذات الذكورية، وثالثها أنه يتنامى أسلوبياٌ عبر الثنائيات المتجاذبة والمتقاطعة موضوعياُ وجمالياٌ.
وإذا تعالقنا مع النص إحصائياً، وجدنا مفردة (الصمت) تتكرر صراحة (6 مرات) في المتن، ومرة واحدة في العنوان!!
وجاءت بدلالة بديلة وإيحاء آخر (مرة واحدة) وهي كلمة (أسكته) من السكوت/ الصمت!!
أما مفردة (الأماكن)، فقد تكررت (9 مرات) بدلالاتها الصريحة (مرة واحدة) و(ثمانِ مرات) بإيحاءاتها الرمزية، وهذا يعني أن (النص) بكامله يتراوح (دلالياً) بين (الذات الأنثوية) كمكان، والسر المخبوء/ المسكوت عنه/ الذي يلفه (الصمت) وهو الاحتياح النفسي والمعنوي والحسي لذات آمرة تكمل الذات الأولى في توافقية عاطفية وطبيعية ضمن السنن الكوني/ البشري في هذه الحياة!!
ولعل المقتبسات التي أوردناها آنفاً تشي بما نريد تأكيده في هذه الوقفة التأويلية لنصٍّ جميل ومركزي في هذه المجموعة التي نحن بصدد تفتيقها ومقاربتها نقدياً وتأويلياً!!
وهكذا يبدو التعالق بين الانثى والرجل في اسمى تجلياته النصوصية، مما يجعله ظاهرة نصوصية في الخطاب النصوصي ل ( خديجه إبراهيم ) الكاتبة النَّاصَّة.
* * *
(5) ومن التجليات (النُّصوصيَّة) في هذه المجموعة، الظاهرة الشجرية والعطرية الفواحة في ثنايا المجموعة، ودلالاتها الفنية والأسلوبية، وقد وجدنا مفردة (الشجرة) ومكوناتها من: الجذور، الجذع، الأغصان، الأوراق، الزهور، السَّاق، اللحاء!! ووجدنا البستان والأشواك، والحنظل، ووجدنا البيلسان، والأقحوان، والياسمين، والبنفسج، والورد.
وكل هذه المفردات تأتي بدلالات متعددة ومتمايزة، لكنها توحي بشيء من العطرية، والبهجة، والحب، والمودة، والصدق والأناقة والجمال، والصداقة والوفاء والسعادة، وإن كانت لا تخلو من دلالات الفقد والألم والفراق!!
تقول الكاتبة/ النَّاصَّة:
” هاجت الريح.. واستوت على جذع بؤسي/
ليقضم ما تبقى من شجر العمر15
وتقول: ” يوقظ الأشجار من سباتها/ ويستقر الندى فوق أوراقها16
وتقول: ” كلمة طيبة.. فهي كفيلة بغرس بساتين من الأمل والبهجة “17
” تعلم أن تبقى وحيداً وتصادق الشمس والأشجار والمطر”18
وتقول: خذوا فؤوسكم واحتطبوا/ قصوا سيقانها وأوراقها
انتزعوا جذورها/ تغطوا بلحائها “19
وتقول: “ماذا لو تركونا تحت ظل تلك الشجرة كما كنا قبل أن يعودوا ”
” ترى ماذا كانت تقول الشجرة حين غابوا في ليلها ” ص107.
وتقول: ” أشذب أشواك روحي/ لماذا يصير الرمل شوكاُ…
تنبت الأشواك تحت قدمي/ وعلى فمي ألف حنظلة”20.
ومن تشظيات هذه الكينونة (الشجرية) وتحولاتها النصية، تأتي السياقات (الزهرية) و(العطرية) وما تحمله من إيحاءات ورمزية، تقول الكاتبة/ النَّاصة:
” احك لها عن طفولتك وماضيك/ عن زهرة البيلسان21/ التي خبأتها في صفحات كتابك”
وتقول: “وتفرش السما ياسمينا22ً/ وترش على ظلنا الورد/ وتعيد ما تبقى منا بربيع مزهر”
” تتفتح زهور الأقحوان23 وتزهر مواسم اليباب :
” للعطر المسافر في مداك/ تأخذك اللحظة لمواسم البنفسج”24
” ليزهر الياسمين في حدائق عمرك”
” لقلب أمي الوارف بعبق البنفسج”25
وفي هذا السياق تأتي الدلالات والإيحاءات العطرية ويتجلى في كثير من (النصوص) و(المقولات) مثل:
” الزهور التي تمنحها عطرك”
” لا شيء معي سوى بعض ذكريات ورائحة عطر”
” ويتهادى لعطرك الصباح”
” نحن اللذين منحتنا الأيام عطرها وعبق لحظاتها ”
” أجد أنفاسك بين ثنايا عطري/ ويتهادى لعطرك المساء ”
” وبعض من عطرك مسكوب على حافتيها ”
” حتى قوارير عطري انتشت ورقصت “26
ولعل قراءة هذه المقتبسات في (نصوصها)، وربطها بدلالات وإحالات الزهور العطرية التي أشرنا إليها في الهوامش السابقة، تعطي القارئ بعض إلماحات لما تحمله هذه (النصوص) من فضاءات أنثوية، واهتمامات نسوية وتحولاتها إلى جماليات فنية وأسلوبية وشاعرية، تزيدها جمالاً ومقروئية!!
* * *
(6) وأخيراً – وبعد هذه التداولية النقدية – أجدني ملزماٌ بالتعبير عن أثر هذه المجموعة (النُّصوصيَّة) والمجموعات السابقة لهذه (الكاتبة) و(النَّاصَّة) الأنيقة في مفرداتها وأساليب الكتابة التي ترتقي بها إلى الشعرية وجمالياتها اللغوية، فأقول: إنني عشت أياماً عداداً، وليالٍ طوالاً مع هذا الجمال النُّصوصي/ الإبداعي الذي يبني عالمه الخاص، المتوائم مع ضروراته الفنية التي استقبلت إشارات الواقع ورسمتها من خلال رؤية فنية غير محكومة إلا بحرية الإبداع، وجماليات المفردات، وفاعلية التصوير للمشاعر الذاتية والنفسية، فجاءت نصوصاٌ متماسكة بدءاً من العناوين التي هي عتبات أولية ونصوص موازية، ومروراً بالتقاسيم المقطعية ذات النفس الطويل و القصير، وانتهاءً بالغايات والمقاصد التي تعتمل في ذهن الكاتبة، ونقرأها بين السطور، وخلف الدلالات والإيحاءات الرامزة.
ولذلك فإني أعترف بأنني كنت مع نصوص جمالية استطاعت أـن تولد في ذاتي القارئة الكثير من الأثار النفسية والجمالية التي حولت تلك النصوص من خيالات وإبداعات نصوصية إلى حقائق ومعلومات حياتية واجتماعية تتعالق فيها الذاتان الأنثوية والذكورية). وهذا هو ما تعنيه الناقدة (يمنى العيد) بقولها: ” إن أهمية أي نص إبداعي تكمن في قدرته على توليد الأثر الموهم بحقيقته27.
وبالفعل، فقد جعلتني هذه القراءة الناقدة أمام نصوص جمالية أوحت لي – كقارئ وكناقد – أنها نصوص تنتصر لعوامل الإيجاب في الحياة، وتحرص على مقاومة الشر والسلبيات، ودحض أدواته من أجل إحلال الخير والجمال والمحبة، بدل التدابر والتقاطع والعنف والعدوان، بين ذاتين تتحدان إنسانياً واجتماعياُ وعاطفياً، فهما سر الحياة وكينونة الوجود!!
وختاماًُ… فلا أملك أمام هذه (النُّصوص) إلا هذا القول الشعري الذي جاءني للتَّوِّ والحال تعبيراً عما أثارته في نفسي من ارتياح وجمال:
” إني (تلوتك) في صحراء قافيتي
وكنتِ (للنَّصِّ) أبواباً مشرعة
فسافري في فضاء (النَّص) وانتجعي
|
|
فأورق التينُ والزيتونُ والعنبُ
على جوانبها الأفلاك والشهبُ
مساربَ الضَّــــوءِ لا لهـــــوٌ ولا لعـبُ
|
والحمد لله رب العالمين
جدة – الاثنين 1445/6/19 هـ
الثلاثاء 1445/7/11هـ