وداعًا يا أمَّ الفاروق

حينما تعجز الكلمات عن التعبير عما تكنه الصدور، حينما تعجز الأحرف عن تسطير ما في القلوب من الحزن والأسى، حينما تقف العبارات في موضع السكون، حينما تكون الأفكار قاصرةً عن وصف المشاعر، فتأكد أنك أمام أمر جلل، حينما ينزف القلب كمدًا وحزنًا ولا تجد لبرئه سبيلًا، وحينما يشيخ الشاب، وتذهب لذات الحياة، حينما تفتقد الأنيس والجليس والطيبة والحنان والحب والدعاء، فأنت أمام فقد الأم.

فقد الأم ليس فقد شخصًا فحسب، بل هو فقد للحياة بأثرها، ترحل الأم وترحل معها الذكريات الحسان، ترحل الأمهات ويرحل معها الخيط الذي تلتئم به الجروح، وبفقدها يفقد المرء حنان لا يُحدُّ، وطيبة، وجلُّ حنان الناس اليوم زائف، وبفقدها يفقد المرء روحه ونور بصره، ودم فؤاده، وأصلٌ هو قطعة منه.

فبفقد الأم، يفقد الابن أصدق الدعاء الذي كان يُرفع له إلى السماء، ويفقد الحبيبة الحنونة التي تُعطي دون انتظار رد، وتُحسن دون مِنّة، فهي الجمال والكمال التي بين يديِها كبرت، وبين ضلوعها اختبأت، وفي أحضانها احتميت، ومن كرمِها ارتويت.

ولكنها الدنيا لا تصفو ولا تدوم لأحد، فإذا حَلَت أوحلت، وإذا أراحت أتعبت، وما ولدت إلا ويتّمت، وما سرَّت إلا وأحزنت، وما جمعت إلا وفرقت، فمصير كل مخلوق فيها الموت، وكل حي فيها يموت، وكل مخلوق فيها يفنى، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ {الرحمن: 26، 27}.

وقد خاطب الله -جل في علاه- أكرم خلقه وخاتم رسله فقال سبحانه: {إنك ميت وإنهم ميتون} فقضى سبحانه وتعالى بالموت على جميع خلقه، صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، ذكرهم وأنثاهم، فالموت لا مفر منه ولا محيص عنه.

 وسلوى المؤمن في الفقد تذكّره رحمة الله بأهل الإسلام وإكرامه لهم، وأنّ ما عنده خيرٌ لهم من بقية الدنيا. 

لقيت أمي الحبية نحبها، وتركت دنيانا الفانية في العاشر من شهر رجب لعام 1445 ه الموافق الثاني والعشرون من شهر يناير 2024 م. بعد معاناة من المرض الذي أصابها منذ قرابة العامين، كانت خلالهما صابرةً راضيةً بقضاء الله محتسبة الأجر والمثوبة من خالقها، لا تضجر ولكنها كانت على أمل كبير في رحمة الله أن يشفيها ويعافيها، أخذت بأسباب العلاج مع التوكل على الله. وهي تعلم أن قضاء الله خيرٌ لها، وكفارة لها من الذنوب، فكان بلائها نعمةً لها؛ فلعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يبلغها منزلةً لا تبلغها بعملها وهكذا حال المؤمنين، ففي الحديث الذي رواه أبو داود “إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى” .

كانت أمي رحمها الله تعالى أمًّا للجميع تحمل الحب والود والحنان لكل قريب وبعيد، امتازت أمي بمجموعة من الصفات جعلتها في عيني أعظم النساء، لا أرى أحدًا أفضل منها ولا أحنَّ منها، تمتلك أمي -رحمها الله رحمةً واسعةً- طيبةً عجيبةً لو أنها وزعت على بلدة بأثرها لكفتها، مرهفة المشاعر والأحاسيس، دموعها حاضرة، تتأثر بأوجاع الناس وتشعر بمصابهم كأن المصاب عندها، مخمومة القلب، لا تحب العداءات، وتميل دائمًا إلى العفو والصفح والمصالحة، ودائمًا ما تأتى على نفسها من أجل أبنائها وتحتسب ذلك قربةً عند الله.

تميز أسلوب أمي التربوي معنا ومع أبناء الأقارب والأحفاد بجانب اللين والرفق والهدوء فهي لا تعرف الشدة ولا القسوة مما جعل أحفادها يحبونها حبًا لا يوصف، ويتعلقون بها تعلقا شديدا فاق تعلقهم بوالديهم فكانت تصب عليهم الحب والحنان صبًا وتغدق عليهم بالعطايا، فمعها كانوا يشعرون أنهم في أمان عن العالم بأثره ، وكان أسوتها في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلوات الله عليه وسلم دائم البشر سهل الخلق لين الجانب يتغافل عما لا يشتهي.

كانت -رحمها الله ولا نزكيها على الله- صاحبة عبادة، تحب الأعمال التي تقربها إلى الجنة، وتكره كل ما يقرب إلى النار من قول وعمل، كانت تختم القرآن في رمضان رغم كبر سنها مراتٍ عديدةً ربما وصلت ما يقرب من العشر مرات.

أدينا سويا فريضة الحج عام 1436 ه  على نفقة أخي الأكبر د عمر، فكانت في غاية السعادة والسرور وهي تستعد لأداء تلك الفريضة فَكأنَّما حيزت لَها الدُّنيا بحذافيرِها، الحنين والشوق يملأ قلبها إلى أطهر بقاع الأرض وتأدية ركن من أركان الإسلام، تتلهف لدخول بيت الله الحرام ولرؤية كعبة الله المشرفة، فعند دخولها مكة دب النشاط والحيوية فيها كأنها بنت العشرين أو الثلاثين، أدت مناسك الحج بكل نشاط وحيوية وسعادة  لا توصف، تقطع المسافات سيرا على الاقدام دون شعور منها بالتعب، مشينا عشرات الكيلو مترات وهي سعيدة منشرحة الصدر، يا لها من أيام خير وبركة قضينها سويا ، كتب الله أجرها وغفر ذنبها ، كما أنها أدت  مناسك العمرة عدة مرات بعد ذلك.

كانت رحمها الله دائمة التفقد لأحوالنا وتدعو لنا بصلاح الأحوال، وإذا ما وقف شيئًا صعبًا أمامنا في الحياة فهلم إلى الوالدة نطلب منها أن تدعو الله لنا، وكأن الله سبحانه وتعالى أكرمنا بفضل دعائها لنا.

كانت رحمها الله نعم الزوجة لوالدي الشيخ محمود عبد الخالق رحمه الله، أعانته على صعوبات الحياة ومتاعبها، وتربية الأبناء، ووقفت معه في حلو الحياة ومرها، فكانت نعم العضد له في مرضه عندما كنا صغارًا، وسند فوق السند عندما كبرنا، شاركته تفاصيل الحياة، زوجة مطيعة تقية نقية ودودة، ندر وجودها في ذلك الزمان العصي، كما أنها كانت تعينه على البر فكان بيتنا دائمًا مفتوح للأقارب، وزوارنا كُثُر، فكانت تحسن ضيافتهم دون ملل ولا ضجر، تقوم على خدمتهم وتجهيز الطعام لهم، وإكرامهم بكل سرور وسعادة ، تشعر الجميع أنهم في بيتهم الثاني وليسوا ضيوفًا، وقد أخبرني أحد الأقارب بأن الوالدة رحمها كانت سببا رئيسا في أن نأتي إلى بيتكم ونصطحب معنا الرفقاء، فوالدكم كان كريما حقا ولكن لولا تقبل الوالدة لخدمة الناس وإكرامهم لما كان هذا الإحسان والإكرام من والدكم فهي شريكة أساس في ذلك، فكم من رجال كرماء منعتهم صفات زوجاتهم من استضافة الناس والإحسان إليهم .

تمتلك أم الفاروق رحمها صبرًا عجيبًا لم أكد أره طوال حياتي سوى عند الوالد رحمه الله، صبرت أمي على صعوبة العيش وضيقها حتى فتح الله علينا وعليها من أبواب رحمته، وصبرت على تربية الأولاد وصبرت على الأذى من أي قريب، وصبرت على مرض الوالد، وصبرت على مرضها الذي أقعدها عن الحركة بعدما كانت نشيطة تخدم الجميع، فابتليت بمرض أقعدها عن الحركة شيئًا فشيئًا، ولكن لم يقعد همتها عن تقوى الله وعبادته، حتى آخر أنفاسها كانت ذاكرةً تاليةً لكتاب ربها مؤديةً لحقه، ختمت حياتها بصلاة الفجر، وأنابيب تنفس الأكسجين في جوفها. والله أسأل أن يجعل مرضها هذا كفارةً لها ورفعةً لها عند ربها في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وهي تعلم أن أمر المؤمن كله خيرٌ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له.

تعد أم الفاروق مثلًا يحتذى به في البر، فقد كانت رحمها بارةً أي بر بوالدتها، تحبها حبا شديد وتغضب لغضبها، تحملت عناء مرضها طوال سنين عديدة وكأنها ابنتاها وليست أمها، كانت مصاحبةً لها على فراش المرض أينما حلت في المنزل والمستشفى، تخدمها بعناية ورفق ومحبة وسعادة.

وكذلك مع إخوانها وأختها فقد كانت تقطع المسافات مسافرة لزيارة أختها الوحيدة، وهي تغرس فينا معاني البر وحب الأخوة، وأن الأخ والأخت لا يعوضان. فكانت رحمها الله بارةً بنا قبل أن نبرها نحن.

أما عن التكافل الاجتماعي فكانت رحمها الله تتفقد أحوال الجيران والأقارب وتسعى لقضاء حوائجهم وتوصينا بهم خيرًا، فكانت تعين من لها بنات لا تقدر على مصاريف زواجهن، ومن عليه ديون تحاول أن تيسر عنه قدر المستطاع وكذا الفقير والمريض وذا الحاجة، فجعل الله ذلك في ميزان حسناتها.

وكانت أمي رحمها الله فاضلةً تقيةً صالحةً، لم تحوذ على الشهادات العليا في التعليم،  ولكن كان علمها التقوى والفضيلة، وأكمل النساء كما قال الرافعي رحمه الله: “ليست هي التي ملأتْ عينيها من الكتب فهي تنظر إلى الحياة نظرات تحلُّ مشاكل وتخلق مشاكل، ولكنها تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة بنور الإيمان تُقِرُّ في كل شيء معناه السماوي، فتؤمن بأحزانها وأفراحها معًا، وتأخذ ما تعطَى من يد خالقها رحمة معروفة أو رحمة مجهولة، هذه عندي تسمى امرأة، ومعناها المعبد القدسي، وتكون الزوجة، ومعناها القوة المسعدة، وتصير الأم، ومعناها التكملة الإلهية لصغارها وزوجها ونفسها.

رحلت أم الفاروق وقد أخلفت عقبها تسع أبناء ستة ذكور وثلاثة إناث كانوا يتسابقون على برها والإحسان إليها،

 الكبرى الأخت رشا معلمة لغة إنجليزية والتي كانت من أبر الأبناء لأمها حملتها في مرضها، لازمتها طوال مرضها هي وابنها الصغير أحمد الذي كان يعد جدته أمه الثانية، كانت لا تدخر جهدًا في خدمتها ، تنام تحت أقدامها وتأتمر بأمرها، تسهر على تعبها، وتتألم لألمها، فجزاها الله عنها خير الجزاء،  ثم الابن الأكبر  د. عمر الفاروق فهو أب للجميع يحمل هم الأبناء، ورث من الوالدين طيبة القلب والحنان، من السابقين في بر الوالدة رحمها الله، يحبها حبًا شديدًا، ويحسن إليها، دائم الزيارة لها،  ثم الأخت الحكيمة أسماء معلمة لغة عربية ميزها الله بعقل حكيم راجح، تضع الأمور في نصابها، صاحبة رأى ومشورة، حنونة وبارة، ومحبة لوالدتها وإخوانها، ومربية فاضلة.

ثم د. مصعب الذي كان يلازمها في مرضها ويتابع بعناية حالتها ويرافقها عند كل كشف، ويسهر على تعبها، ويحكي لها كل أسراره، ويستأنس بحديثها، يخاف عليها خوفًا شديدًا، بارًا بها مطيعًا لها.    

ثم الأخ حذيفة الذي يعمل تاجرًا، رجل بكل ما تحمله الكلمة من معاني، خدوم للجميع رجل مواقف، السند والعضد لإخوانه، كان يحمل والدته بين يديه، ويصعد بها الدرج عند كل زيارة للطبيب ويستأنس بحديثها معه، بارًا مطيعًا.

ثم الأخ معاذ معلم لغة عربية، صاحب القلب الحنون، التقي النقي المحب للخير، البار بوالدته، كان يلازم أمه في كل إجازة يقضيها في البلدة، يتقرب إليها بكل الوسائل، ويتسابق على برها، وكانت تقر عينها برؤيته. 

ثم ابنها نزار، ثم الأخ حسن محاسب، صاحب قلب طيب يحب أمه حبًا شديدًا، ويسعى في برها والإحسان إليها وينتظر دعواتها ويسر إليها كل تفاصيل حياته، وهو أصغر الأبناء من الذكور، وكانت رحمها الله تحب حبًا جمًا.

ثم الأخت الصغرى الزهراء فاطمة، معلمة علم نفس، ذات خلق رفيع بارة بأمها، لازمتها في صحتها وعافيتها ومرضها، صاحبة قلب حنون، تحب الخير للجميع وتسعى له، كانت ريحانة أمها وزهرة حياتها.

رحلت أم الفاروق عن الحياة الدنيا وهي بارة بأبنائها قبل أن يبروها، وعلى أمل من الله أن يجمعنا بها في جنات عرضها السماوات والأرض، فجزاكِ إلهُ الكونِ بالخلدِ منزلًا. به سندسٌ خضرٌ وفيه الرفارفُ على أملٍ باللهِ أنّا سنلتقي على سررِ الفردوسِ فالله رائفُ.

ألا ربِّي فاغفر لي قصورًا جهِلتهُ وأيَّ عقوقٍ دونَ قصدٍ يقارفُ..

نزار عبد الخالق

 

مقالات سابقة للكاتب

19 تعليق على “وداعًا يا أمَّ الفاروق

غير معروف

غفر الله لها ورحمها رحمة واسعة

ام عمرو الشقيري

جزاك الله خير اخي الغالي. اللهم ارحمها واسكنها فسيح جناتك. فوالله فان فرقها شديد يمزق قلبي. ادعو ربي ان يصبرنا علي فرقها. انا انسي انها فارقت الحياه وكأنها تعيش معنا. ما اشد فراقك يا امي رحمك الله. وجعل قبرك روضه من رياض الجنه.

غير معروف

ماطر الرحمات وصالح الدعوات لروحها الطاهرة تقبلها الله في الصالحين

أبو عمار بن سلام

غفر الله لها ورحمها رحمة واسعة

محمد حسين

رحمها الله رحمة واسعة،واسكنها فسيح جناته

Tarek Elashry

رحمها الله وغفر لها وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة

غير معروف

نسأل الله ان يغفر لها و يرحمها

غير معروف

اللهم أغفر لها وأرحمها وأسكنها فسيح جناتك مع النبين والصدقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا

مروان خلف احمد

غفر الله لها واسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقيين والشهداء والصابرين والمحتسبين

ادهم حلمي حامد

اللهم أغفر لها وأرحمها وأسكنها فسيح جناتك مع النبين والصدقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا

غير معروف

غفر الله لها واسكنها فسيح جناته

وائل القديم

اللهم اغفر لها وارحمها واسكنها فسيح جناته

غير معروف

غفر الله لها ورحمها وتجاوز عن سيئاتها

غير معروف

اللهم اغفر لها وارحمها واجعل الجنة دارها ومستقرها وربط علي قلبك ورزقكم الله الصبر والسلوان اخي العزيز

عبدالرحمن صابر

اللهم اغفر لها وارحمها واجعل الجنة دارها ومستقرها وربط علي قلبك ورزقكم الله الصبر والسلوان اخي العزيز

جمال التونسي

غفر الله لها واسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقيين والشهداء والصابرين والمحتسبين

غير معروف

عشتم ي أبناء الشيخ ورحم الله ام الفاروق امكم جميعا وامتا ورحم الله أمواتنا أجمعين وانا لله وانا اليه راجعون ولكم جميعا خالص العزاء

Ahmed Atta Rashwan

تعاملت معها عن قرب وكنت المعالج لها لفترة أشهد اني ما رأيت احد مثلها في صبرها علي البلاء وكرمها الدائم وعمل الخير المستمر ورأيت ابنائها وتعلقهم الشديد بها والحب من الابناء والاحفاد والجيران.
منذ بدء العمل مع الحالات حتي اليوم لم اتأثر بحالة مثالها فقد احببتها كأمي وتأثرت جدا بسمع خبر وفاتها والله كانت خير الناس مطيعة، صابرة، ودودة، تحب الخير للجميع.
اسأل الله العظيم ان يغفر لها ويرحمها ويجعل الفردوس مقامها وأن يلهمني وذويها الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون

غير معروف

ربنا يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته يارب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *