الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أم طارق لمحزونون .. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
صدق الله القائل (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وقال جل تعالى (ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) .
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله : يا ابن آدم أحبب من شئت فإن مفارقه ..
رحلت قرة العين و مهجة الفؤاد ، رحلت النقية التقية العابدة الصالحة ، رحلت الحبيبة الغالية الوفية وتركت فراغاً كبيراً لا يُسد ، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها ..
مرت 28 عاماً عشناها سوياً جميلة بجمال روحها الطاهرة يعتريها ما يعتري الحياة الزوجية من هنات ، كانت مثالا للمرأة الصالحة – ولا أزكيها على الله – أحياناً يحصل زعل أو خصام بسيط فأخرج من البيت متضايقاً وسرعان ما أعود وكأن شيئا لم يكن فتقول رحمها الله علمت أن الله سيردك… لأنها كانت منذ أن أخرج تستغفر ربها باستمرار حتى أدخل عليها .
والله لا أذكر يوما أنها زعلت لعدم تلبية طلب معين لها كملابس أو أثاث أو نحو ذلك إن تيسر الحمد لله وإن لم يحصل فلا حرج فزاد إكرامي لها وحبي وتقديري ، لا أذكر يوماً أنها عارضتني أو تعصبت لرأيها ولو كان الحق معها .
أحياناً يحصل مني زعل على الأولاد ثم أقول لها شوفي كيف هؤلاء الأولاد فعلوا وفعلوا فتقول بكل ثقة ادعوا الله لهم ، عليك بالدعاء .
كانت رحمها الله محبة للخير من مؤسسي دار التحفيظ في الحي ومن المعلمات فيها وكانت من المشاركات في الدعوة إلى الله عبر القسم النسائي لمندوبية الدعوة والمكتب التعاون سابقاً من إلقاء الدروس والمحاضرات والمشاركة في الأنشطة والبرامج ، مساهمة في أعمال البر ومساعدة المحتاجين .
كانت رحمها الله من خريجات معهد التحفيظ التابع لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمحافظة خليص فحفظت القرآن واتقنت تلاوته على يد المربية الفاضلة الأستاذة عادلة .
وضعت في البيت تلفزيونين واحد في الصالة وآخر في غرفة الجلوس لماذا ؟ هل لمتابعة المسلسلات والأفلام – لا والله – بل وضعتهما على قناة القرآن الكريم فادخل البيت فأجدها إما مصلية أو تالية لكتاب ربها أو مستمعة لقناة القران.
كانت تراجع القرآن باستمرار رغم مشاغل البيت والأولاد والوظيفة ، وآخر ما سمّعته عبر المقرأة القرآنية (عن بعد ) كانت قبل دخولها المستشفى بأربعة أيام فقط رغم تعبها الواضح ، كانت رحمها الله حريصة على الصلاة حرصاً شديداً محافظةً على السنن الرواتب والوتر وصلاة الضحى ونادراً ما تتركها ، وفي آخر ايامها رحمها الله كانت تصلي على الكرسي في البيت وتحاول القيام ما استطاعت وتبكي وتقول ما أحس إني صليت بدون السجود على الأرض ، وفي المستشفى والله مربوط بها ثلاثة انابيب وأكياس تذهب بها إلى الوضوء ومعها الحامل المتحرك ثم تصلي السنة أولا ثم الفرض ثم السنة البعدية وكنت أقول لها قد عذرك الله صلي الفرض فقط وأجرك مكتوب وكان تبكي وتقول ما سوينا شي للآخرة – سبحان الله – كانت في العناية المركزة مربوط فيها الاجهزة ، أجهزة القلب والنبض والمغذي والأكسجين و القسطرة وأنبوب لسحب السوائل وتقول لي الآن كيف أتوضأ كيف اصلي ، فسبحان من أعان ذلك الجسد المنهك المثقل بالألم .
وقد قيل إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام ..
وأما برها بوالديها فكان واضحاً جلياً بحكم قرب منزلها من منزلهما – وهما شيخان كبيران – كانت رحمها الله تتفقد أحوالهما وتقوم على حاجتهما وليس قصوراً في إخوانها وأخواتها فهم في البر مثلها وأكثر ، لكن ترى أن المسؤولية عليها أكبر لأنها الأقرب إليهم مسكناً .
قبل مرضها بفترة كانت تقول أبغى أعيش بسلام لا أريد الزعل من أحد ولا أريد احد يزعل مني أنا وصلت للمرحلة الملكية نسبة إلى كتاب الدكتور خالد المنيف “المرحلة الملكية ” .
استمر مرضها رحمها الله أربع سنوات بداية الإحساس بالمرض بينت الأشعة المقطعية وجود تكتلات في الثدي ثم تم أخذ عينة ” خزعة ” وفحصها فبينت وجود سرطان هرموني في الثدي وبؤر خاملة في الرئة اليسرى والكبد وما زلت أذكر حين تلا علينا الدكتور التقرير وكانت صدمة لنا وكانت عيناها تذرفان وتقلب كفيها وتقول الحمد لله الحمد لله ، ثم بدأت رحلة العلاج بداية بالعلاج الكيماوي ثم عملية استئصال أولى ثم عملية ثانية ثم علاج إشعاعي ثم هرموني يتخلل ذلك أشعة بجميع أنواعها ثم آثار العلاج من تساقط الشعر وتغير لون البشرة ومع هذا كانت صابرة محتسبة لم أذكر أنها اشتكت يوماً أو تذمرت بل كانت تقول الحمد لله هذا ابتلاء من الله حتى إذا ظننا أنها شفيت وتعافت عاودها المرض في الكبد والرئتين وانتشر في فقرات الظهر والرقبة ثم تدهورت حالتها حتى دخلت في غيبوبة لمدة أسبوع ثم فاقت أسبوعاً آخر ثم اسلمت الروح إلى باريها فجر الاثنين 16/8/1445 رحمها الله رحمة واسعة وأنزلها منازل الشهداء
وختاماً هذه الرسائل ابعثها إلى …
الرسالة الأولى لك يا أبا طارق:
لعلك وانت تثني على زوجك تمدح نفسك ، فأقول هذا بعض فضلها أردت نشره لعل فيه موعظة وعبرة واستغفر الله مما خالط نيتي ، وأسأل الله أن يجبر كسرنا وينزل علينا السكينة والطمأنينة والرضا .
الرسالة الثانية إلى أولادي حفظهم الله :
هذه أمكم قد أفضت إلى ربها وإني راضٍ عنها تمام الرضا فلا تنسوها من صالح دعائكم وصدقاتكم وبرها بعد موتها
الرسالة الثالثة إلى كل المحبين من إخوان وأخوات وصديقات وزميلات :
لا تحزنوا على فراقها فإنها كانت على خير وإن شاء الله إنها إلى خير فقد قدمت على ربٍ كريم رحيم هو أرحم بنا من أمهاتنا يغفر السيئة ويجزي بالحسنة عشر امثالها.
الرسالة الرابعة إلى المتزوجين :
إن العلاقة الزوجية مبنية على التقدير والاحترام ثم الله يجعل بينكم المودة والرحمة ، والحب ينمو ويزداد مع الأيام فاسقوه بالصبر والعطاء ، تفاهموا وتشاوروا وتحاوروا بالكلمة الطيبة والنقاش الهادئ والواقعية وتقديم المصلحة العامة على الخاصة ، و إنا لا شك راحلون ولأحبتنا مفارقون ولا يبقى إلا الذكر الجميل .
الرسالة الأخيرة :إلى مدينة الملك عبد العزيز الطبية بجدة :
كل الشكر والتقدير للطاقم الطبي والإداري على أخلاقهم الرائعة وتعاملهم الراقي وحسن التنسيق والمتابعة وجود الخدمة والرعاية، بارك الله في جهودكم وكتب أجوركم والشكر موصول لحكومتنا و ولاة أمرنا على توفير هذه الرعاية الطبية المتميزة والتي تكلف مئات الآلاف من الريالات بالمجان ، جزاهم الله عنا خير الجزاء، وحفظهم وأعانهم .
أخيراً : أيتها الغالية استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه غدا نلتقي في جنات عدن في مقعد صدق عند مليك مقتدر
اللهم اغفر لأم طارق وارحمها ، اللهم أكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد، اللهم جازها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً .. اللهم آمين ..
حمزة عابد الصحفي
مقالات سابقة للكاتب