في مجلسٍ من مجالس شرح السنة النبوية، كان الحديث عن روايات أحاديث الخصائص التي أُعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وقفت الدكتورة عند خصيصة الحمد التي لا ينبغي أن نغفل عنها؛ إذ نبينا صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد يوم القيامة.
فينبغي أن يكون ديدَنُنا الدائم هو حمد الله في السراء والضراء، حمدًا صادقًا مِلئ قلوبنا؛ يليق بجلال الله وعظمته. ثم قالت حفظها الله ما أخذ بالألباب: “لا يُوهمنّكِ الشيطان أنكِ حين تفقدين شيئًا؛ فقدتِ كلّ شيء!” فما أصدقها من عبارة؟ وما أشد ذُهول العقل عنها مع كونها شديدة الوضوح!
لا يُوهمنّك الشيطان أنك حين تفقد شيئًا؛ فقدتَ بفقده كلّ شيء! ولا أنك حين فقدت فلانًا من الناس بموت أو افتراق سبيل؛ فقدت به كل شيء! كل الناس يفقد شيئًا، وكل الناس مُودّعٌ ميتًا. تختلف العلاقات والصِلات بلا شكّ، ولكن لكلٍ شخصٌ عزيزٌ وشيءٌ ثمينٌ، والحياة يوم فاقد ويوم مفقود. لا يُوهمنّك؛ فيُقعدنّك الحزن.
يختلف فقدٌ عن فقد، ولا أقول إن الفقد سواء! فليس مَن فقد والديه أو أحدهما كمَن مُتّع بهما طوال حياته! وليس مَن ذاق موت الابن والذرية قبل موته كمن لم يذق! ليس مَن خسر أخاه العزيز أو صديقَه القريب، كمَن كثُر إخوانه وأصدقاؤه بلا تمييز بينهم في القُرب والصُحبة والأُلفة! لكن القصد أن نُربّي أنفسنا أن الفقد حقّ، وغير مستبعد.. حتى إذا حانت لحظةُ ابتلاء المرء به؛ كان حزنُه فطريًا مستقيمًا، ولا يجد الشيطان إليه به سبيلًا.
وإننا لنتعلم، ليس فقط من حياته صلى الله عليه وسلم، بل نتعلم حتى من موته! ومن جُملة ما نتعلمه: أنه لا فقد أعظم من فقد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كانوا يرونه بين أظهرهم صباح مساء، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وعلّمهم وربّاهم وزكّاهم؛ حتى كأنهم خَلقٌ جديد! فكيف تتوقع حزنهم؟
أبو بكر -رضي الله عنه- بعد أن تأكد من موته صلى الله عليه وسلم؛ خرج إلى الناس فخطب فيهم، وتلا عليهم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر:30] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فنشج الناس يبكون “بكاء المفجوع الذي أدرك الحقيقة، وأفاق مما هو فيه من صدمة. كان ابن عباس -رضي الله عنه- هناك، وقد وصف حال الصحابة بعد خطبة أبي بكر” فقال: (والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها من الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها) [البخاري: 4187].
واختصر أنس بن مالك -رضي الله عنه- حال ذلك اليوم بقوله: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء) [الترمذي: 3618].
لقد حزنوا على فقده أشد ما يكون الحزن، ففقدهم فقدٌ لسيد ولد آدم لا كفقد عموم بنيه! “أهالوا التراب والدموع عليه… بكوا ذلك النبي الذي كان أرحم الناس بهم، وأحب الناس إليهم.. بكوا محمدًا صلى الله عليه وسلم… الذي فارق الحياة… لكنه بقي سُنةً ومَنهجًا…. نهض الصحابة بعد دفنه ولم يعكفوا عند قبره…. لقد علّمهم عليه الصلاة والسلام…. كيف يُشرقون كالشمس في عروق المستقبل والأجيال.. نهضوا من عند قبره فحملوا رسالته إلى العالم لينقذوه بها كما أنقذهم هو قبل ذلك بها” [السيرة النبوية للصوياني (4/ 269)].
فظل الصحابة هم الصحابة، ففتحوا الدنيا وساروا في الأرض، وعلّموا ودعوا واجتهدوا، ونشروا الرسالة وأدوا الأمانة، ولم يوقفهم حزنٌ على فقد.
فلا تظنن بعد هذا أن فقدك أعظم من فقدهم، ولا تحسبن أن فقد ما يُفقد من الأشياء والمناصب والجمادات أكبرُ شأنًا من فقد الأنفس! فها هي ذي الأنفس تُفقد؛ ومع ذلك يتصبّر المرء ويُربي نفسه على حسن الفعل، فلِمَ يوهَن المرء ويُبالغ في الحزن والأسى على فقد ما دون النفس؟!
إن من الناس مَن يبقى تحت ربقة الذكرى بقاءً مُوقِفًا للحياة، مُوغِلًا في الألم، ومُوهنًا للبدن! فهؤلاء ليس إليهم سبيل إلا أن تُذكرهم نهج الإيمان، وأن تتلو عليهم الآيات المبينة لحقيقة الدنيا، وفرق ما بينهما وبين دار الحيوان -أي: دار الحياة الكاملة بنص القرآن-.
ولا يخلو فقد ولا فراق من عبرة ودرس؛ فأبلغهما هو تعلّم المرء الغُنية بالله، ووعيه بنقص هذه الدار وما جُبلت عليه من كدر. إضافةً لما فيهما من اختبارٍ لحمل لواء الحمد في الضراء كما اعتاد حمله في السراء، واختبارٌ لتوقف السعي أو مواصلته.
فاحمد الله دومًا، ولا تَفُتك عِبر الفقد وعِظاته، ولا تحزن حُزنًا يُقعدك عن العمل الصالح، وتعلّم كيف تُشرقُ كالشمس بعد كل ليلٍ دامس.
جمانة بنت ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب