تتمثل وجهة النظر الدوغمائية في فكرة ضيقة مفادها أن التهديد الأكبر يكمن فيمن لا يشبهنا، فيمن لا يتمثل بمثلنا، ولا يعلي قيمنا لأنه -حتما- سيسعى لخرابها، أو في أفضل الأحوال وأنقى النوايا سيهملها -وفي نظر الجميع- هذه الفكرة تملك كل المبررات لشن الحرب والمبادرة بالعداء.. كل منا سيروج لما يعتقد بصحته أخلاقياً، فكرياً، علمياً، عملياً، وهذا طبيعي فكل انسان خادم لذاته، لكن “ما يعتقد بصحته” يعتمد على الكثير من الأمور غير المرتبطة بقوة الحجة ومنطق الحديث، أو مدى صحته وعلميته أو موثوقيته.. بل شخصيا أعتقد انه يتعلق بصفة أكبر بما يشعر به وبما يتناسب وسمات شخصيته ومصالحه، وفي ذلك -ويالسخرية- كلنا نتشابه!
وسأستطرد هنا لأشرح أفكاراً أساسية كوّنت هذا الاعتقاد الذي لا أزعم صحنه علمياً، فهي مجرد اجتهادات في التحليل والربط، مبنية على معرفتي المتواضعة فحسب:
•السمات الشخصية
يعتقد الإنسان أنه كائن عقلاني مدفوع بالمنطق الذي تحكمه الموضوعية والحيادية.. إلا أن الموضوعية والحيادية لا تعملان بتلقائية، بل تحتاج تحديداً بذل الكثير من الجهد في القراءة والمطالعة والبحث حول الموضوع -أيا كان- قبل تبني موقف تجاهه.. وعموم الناس -كما هو واضح وطبيعي-إلى حد ما- لا يسخرون جهدهم في البحث خلف كل موضوع، بل إن موقفهم يتشكل مباشرة بمجرد معرفتهم للسمات العامة فيه، والتي تبدأ بالتفاعل مع السمات الخمس لشخصياتهم، أشير إلى نظرية السمات الخمس في علم النفس التي تفترض أن شخصيات البشر تقع بين (الانفتاح على التجارب، الانبساطية، التقبل، قوة الضمير، العصابية) بنسب مختلفة، وكل سمة لها نقيضها، فعكس الانفتاح الانغلاق، وعكس الانبساطية الانطوائية وهكذا، وكلما اقتربت من أعلى رقم في المؤشر دلّ ذلك على شدة بروز هذه السمة في شخصيتك، والعكس صحيح وكما أن للشخصية سمات فالأفكار لها سمات أيضا، ويحصل أن تتلاقى السمات المتشابهة مما يقود إلى تبني الشخص المنظومة فكرية معينة دون غيرها، حيث أسفرت دراسة أجريت على عينة عشوائية من الطلاب الجامعيين في كندا عن أن الشخصيات المتدينة تظهر ارتفاعاً في سمة الضمير والتقبل فيما أظهرت الشخصيات غير المرتبطة بأي دين ارتفاعًا في سمة العصابية، إذ يمكننا تفسير ميل الشخصيات ذات الضمير والتقبل العالي إلى الدين كون الدين يشتمل على نظام أخلاقي، ويستوجب اتباع أوامر واجتناب نواهي، كما يتمتع بصفة المحاسبة والمسؤولية واستشعار الله والاخلاص في العمل وكلها صفات تمثل سمتى الضمير والتقبل، وذلك ما دللت عليه الدراسة، ومثل ذلك الأفكار أو التوجهات غير التقليدية الخارجة عن المعتاد، غير المفيدة بقوانين تعكس صفات مثل الحرية اللانظامية المغامرة التغيير، وهذه كلها تمثل سمة الانفتاح، فتجذب لها أشخاصاً يمتلكون هذه السمة بالفعل لأن الفكرة تتحدث بمنطقهم، والذي قد لا يكون منطقياً أو مستساغاً بالنسبة لغيرهم بسبب عدم امتلاكهم لهذه السمة.
•المشاعر والخبرة الشعورية
نحن عاطفيون قبل أن نكون عقلانيين، وكل ما يحصل معنا في هذه الحياة هو انفجارات من المشاعر المفهومة لنا في أحيان وغير المفهومة في أحايين كثيره، ونحن في مشاعرنا لا نفرق بين المسببات، لكننا ننتمي مباشرة للفكرة التي تنتمي لذات الشعور، ابني هذه الفكرة على نظرية الرواسب والمشتقات لدى عالم الاجتماع “باريتو”، حيث تمثل “الرواسب” مكنونات الفرد، فيما تُمثل المشتقات الحجج والتبريرات التي يسبغها على السلوكيات التي نبعت من مكنوناته، ورغم أنها طرحت في سياق سياسي حيث ان باريتو قصد بها رجال السياسة الذين يسبغون على سلوكياتهم تبريرات تجعل فعلهم مشروعاً للحفاظ على صورتهم امام الناس، فيما سبب فعلهم لا يمت بصلة لما اشتقوا له وانما نابع من رواسب قابعة في ذواتهم- إلا أني أرى أنها تنطبق على غير السياسي أيضا بل وفي مجال حياتنا اليومي، من دون وعي أو تقصد منا، فنحن في الأفكار والقضايا التي تتبناها إنما نحاول إسقاط مشاعر تتصل معنا أو نشعر بحاجة لإشباعها في داخلنا، فالإنسان ينتصر للقضايا التي تنتمي لمشاعر يألفها، حتى مع أن المسببات غير متطابقة، بمعنى أنك قد لا تعيش بالضرورة الموقف ذاته المتصل بالقضية أو الفكرة التي تدافع عنها، لكنك تملك خبرة سابقة وعميقة بشعورها لسبب آخر تماما، والكلمة المفتاحية هنا هي (الشعور) فالعقل الذي يشعر عند الانسان بحسب وصف مارك مانسون في كتابه “خراب”_ لا يميز ولا يعبأ بعظمة الموقف أو تفاهته، فالشعور بالنسبة له واحد وهو ما يستجيب له بصفة تلقائية، كذلك ينطبق الأمر على الأشخاص المهتمين بالمدافعة عن الأقليات ورواد نظريات ما بعد الاستعمار، حيث إنهم عادة ما يكونون ممتلئين بالشعور بالدونية اثر خبره شخصية خاصه، الا انهم بنضالهم يحاولون معالجة شعورهم الشخصي عن طريق تصحيح العالم وفرض العدالة المفتقدة داخليا فيه وأضيف بمثال تحليلي لذلك من فيلم (LUTHER) الذي يطرح سيرة ذاتية لمارتن لوثر القسيس المسيحي الذي خالف الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، وشنّ حركة الإصلاح الديني، فعلاوة على الممارسات، الإجحافية التي كانت تمارسها الكنيسة على الناس أنذاك في بيعها صكوك الغفران بثمن، ووقوفها حائلا بين الله والناس، كانت معاناته الوجودية مع شعور الذنب والعار وحاجته للصفح والغفران لتحريرها تمثل حسب اعتقادي شخصياً دافعه العاطفي، او حسب باريتو “راسبه” الذي جر سلسلة من الدوافع المنطقية الأخرى، فرغم عدم عوزه للمال وعدم اتصاله بالموقف واقعيا، إلا أن معايشته لتجربة شعورية مشابة الحرمان من الصفح هي ما قاد إلى تحفيز الأفكار والأسئلة، واتخاذه موقف معاد للكنيسة.
وإذن فنحن شعور قبل أن تكون فكرة، وما الأفكار والأيديولوجيات إلا وعاء يحاول استيعاب وتغليف مشاعرنا وتبريرها، وفي النهاية نحن نوالي مشاعرنا، لا أفكارنا، حتى عندما تعتقد أننا نفعل العكس.
لا يتحارب المتشابهون، وحدهم المختلفون يفعلون نصور اختلافنا نعمة، وتتغنى بالتنوع والسعة وبالجمال الكامن في فروقاتنا. ونسبغ عليه قالباً رومانسياً، بيد أننا جميعا لا نعي أي نقمة تحل بنا، ولا إلى أي وحوش يمكن أن نتحول إليها، حال نصبح المعنيين بهذا الاختلاف، وفي هذا يتبين لك أنه لا يكون خيار أحد، إلا أنه يصبح مشكلة كل أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
نظرية السمات الخمس
نظرية باريتو الرواسب والمشتقات
دراسة على تأثيري السمات على التوجهات
https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0191886999000689
مقالات سابقة للكاتب