(5) وعدنا إلى نزلنا للراحة والسكن، من عناء الجولة الماضية، ولنسهر مع صديقنا الدكتور ناصر الحميدي الذي أفادنا بمنجزاته البحثية الأخيرة، فقد نشر له بحثاً محكماً بعنوان: التشكيل البصري وشعرية اللغة في ديوان (التباس) للشاعر حسن الزهراني، وهو بحث في السيميائية والأسلوبية، نلمس فيه حسن التذوق وبراعة النقد، وحداثة التصور النقدي والشعري، في متلازمات أسلوبية إعتاد عليها الدكتور الباحث/ الناقد منذ بحثه السابق: التشكيل البنائي والدلالي في ديوان (الجائحة) ليوسف العارف، الذي نشره عام 2022م، والدكتور/ الصديق ناصر الحميدي يملك حاسة نقدية مائزة يوظفها في أبحاثه ودراساته التي أنجزها طوال مسيرته العملية مثل:
– البيئة السردية في القصص القصيرة جداً للقاص خلف القرشي، 2023م.
– البدايات والنهايات في قصص حكيمة الحربي، 2024م.
– البنية اللغوية والبلاغية والإيقاعية في أناشيد المرحلة الابتدائية 2019م.
وغيرها الكثير والكثير، والتي تدل على اهتماماته البحثية في المنجز الأدبي السعودي المعاصر.
والدكتور ناصر الحميدي يعجبك إذا تحدث بانسيابية لغته، وفصاحة مقولة، ودماثة خلقه، ويعجبك في إنسانيته وروحه الإيجابية وهو ممن يؤثرون غيرهم وإن كان الأحوج!! صحبته في كثير من السفريات فإذا به أخ كريم وحسن رفقة، وصلاح طوية، ودين، وسماحة وخلق قويم. بارك الله في زمالته، ومتعنا برفقته، وأدام عليه الفضل العميم.
أصبحنا يوم الاثنين 9/8/1445هـ، على صوت المؤذن، وكان المسجد قريباً، مما شجعنا على الصلاة فيه، فوجدنا المؤذن – وهو من طلاب الدكتور ناصر – يقدمه للإمامة، فأمَّنا بكل خشوع وتلاوة نقيَّة، ثم عدنا للنزل حيث قررنا ممارسة رياضة المشي بجوار الفندق، فعلى كورنيش (الدقم) أقامت البلدية ممشىً رياضياً ومرتباً وملوناً يحفز ويشجع على الممارسات الرياضية وأخذنا من الوقت ما يقرب من الساعة مشياً وذكراً لأذكار الصباح، ونقاش في فعاليات هذا اليوم حتى موعد الأمسية بعد صلاة العشاء.
وبعد النشاط الرياضي اقترح زميل الرحلة أن نذهب للإفطار في أحد المطاعم الصباحيَّة وهذا ما كان، ثم عدنا للسكن الدكتور يستعد لمحاضرته الجامعية، وأنا أستعد لأمسيتي التاريخ/ شعرية/ وطنية، وما إن غادر الدكتور حتى أويت لفراشي مستعيناً بالله في قيلولة طويلة حتى عاد الدكتور ناصر مع أذان صلاة الظهر لنصليها جمعاً وقصراً والحمد لله.
وما إن حان موعد الغداء، حتى كنَّا على موعد مع أجمل وأغرب غداء مرَّ علينا – شبيه بغداء الأمس – حيث كانت ما تبقى من (نواشف) الإفطار الشهي الذي تناولناه عند جسر (مستورة)!! ولك أن تتخيل كمية الزهد والتقشف التي عشناها خروجاً عن المألوف وتجديداً في العادات والتقاليد، وبعيداً عن الرسميات، وهكذا نحن – أبناء الطائف – تستهوينا هذه التفاعلات التجديدية.
وما إن حل العصر حتى استعد زميلنا الدكتور ناصر لمحاضرته المسائية (عن بعد) لمجموعة من الطالبات، فانفرد بنفسه في بهو الفندق، وكنت أسمعه في حوار ونقاش مع الطالبات وأسئلة وجوابات مما يدل على التفاعل الإيجابي بين الأستاذ المحاضر والطالبات المستفيدات.
وبينما هو كذلك إذ أطل علينا رئيس الصالون الثقافي بديوانية المناخة التراثية الأستاذ مساعد بن حمزة القوفي الذي صلى العصر بجوارنا وأتى للمؤانسة ومزيد التعارف، وأهداني كتابين من كتبه وتآليفه وهما:
– رحلة إلى بئر السبع (رواية) نشرت عام 1440هـ.
– أملج الحوراء من الألف إلى الياء (تاريخ) نشر عام 1437هـ.
والكتابان ماتعان ومفيدان تصفحتهما على عجل وسجلت بعض الملحوظات والانطباعات فرواية (رحلة إلى بئر السبع) عبارة عن قصة واقعية وقفت أحداثها لثلاثة رجال من أهالي أملج عام 1362هـ/1942م، ولكنه بأسلوبه الأدبي يحولها من قصة واقعية إلى قصة أدبية فيها من الخيال والأسلوبية ما يجعلها مقروءة ضمن السياق الرحلي/ السردي، ويسميها – على استحياء – رواية، ولكنها – في الواقع – قصة سردية طويلة.
ويتضح للناقد/ القارئ أنها تتنامى من خلال مفهوم النص السردي القروي، لاعتمادها على كثير من المفردات والكلمات الشعبية/ المحلية الدارجة عند أهالي أملج، وفيها ذكر لأشياء معروفة من التراث الشعبي والمحلي، والتي يضع لها تعريفات تقريبية في الهوامش أسفل صفحات الكتاب.
كما يتضح اتكاء المؤلف على ما يسمى نقدياً بـ(التناص) وهو الاستشهاد بالشعر والأقوال المأثورة سواء الفصيح منها أو العامية/ الشعبية.
ونجد فيها كثير من فنيات وجماليات النصوص السردية/ القصصية في نماذجها العالية مثل (الفيد باك) الاسترجاع الماضوي، والحوار الثنائي بين شخصيات العمل، والاستشراقات المستقبلية، والزمكانية حيث كان الفصل الأول ما بين أملج والوجه، والفصل الثاني ما بين الوجه وبئر السبع، والثالث ما بين بئر السبع وأملج.
وهنا تتشكل إحدى جماليات النص السردي حيث الحركة الدائرية بدءاً ومنتهى!! فقد بدأت الرحلة من أملج وانتهت بالعودة إليها وفي ذلك دلالة على تقلبات الإنسان وتطوراته من الوطن والهجرة ثم الغربة ثم العودة للوطن!!
وأما كتاب أملج الحوراء، فهو كتاب تاريخي – اجتماعي يوثق لمراحل تطور هذه المدينة (أملج)، ويمكن تقسيمه إلى أربعة مستويات:
المستوى الأول: التعريف بـ(أملج) عبر بعدها الجغرافي، وبعدها (التاريخي) تعريفاً يضع القارئ أمام صورة استدعاء للماضي عبر مراحله التاريخية من قبل الميلاد وعبر العصور الإسلامية والعصور الوسيطة، وعصرنا الحديث.
والمستوى الثاني: الحديث عن (أملج) والحياة الاجتماعية فيها ومواقع السياحة والآثار والمهن البحرية والموانئ المستفاد منها.
والمستوى الثالث: استعراض بعض قصص وتجارب وبطولات رجال البحر (البحارة) وأحداثهم التاريخية.
والمستوى الأخير (الرابع) يورد المؤلف مختارات من الأشعار التي يتعاطاها البحارة في رحلاتهم البحرية للصيد أو السفر عبر البحر.
وفي كل تلك المستويات نجد الباحث الجاد، والمعلومة الموثقة، وبهذا يشكل الكتاب مرجعاً يحتاجه الباحثون والدارسون، ومورداً عذباً للشعراء والكتاب والساردين أصحاب الميول السردية/ القصصية.
هذه إشارات مستعجلة – بعد قراءات أولية – ولعلي أفرغ لقراءتهما والاستفادة مما فيهما إن شاء الله تعالى.
وها نحن بانتظار صلاة المغرب وما هي إلا دقائق معدودة، فتركنا الدكتور ناصر مع طالباته لينهي محاضرته ويلحقنا إلى المسجد للصلاة، بينما (أنا والأخ مساعد القوفي ركبنا سيارته وذهبنا للمسجد فصيلنا وعدنا إلى الفندق. أما صاحبنا الدكتور ناصر فأكمل محاضرته ولم يدرك الجماعة فصلى منفرداً وخرج مسرعاً واتجه نحو ديوانية المناخة التراثية حيث ستقام الأمسية على توقع منه أني سآتي مع الأستاذ مساعد القوفي، وهنا يحصل الموقف الطريف فأنا في الفندق بانتظار الدكتور ناصر لنذهب سوياً للديوانية، والأخ مساعد القوفي تركني وذهب للديوانية، وناصر سبقنا إلى هناك، وظللت وحدي منتظراً حتى قارب وقت العشاء، فاتصلت على الدكتور ناصر مستفسراً أينه ومتى نذهب للديوانية؟! فكانت المفاجأة والطرافة والضحك الذي يشبه البكاء!!
ولم يجد بداً رئيس الصالون الثقافي إلى العودة للفندق واصطحابي للمحاضرة.. وهذا من أجمل المواقف التي لازلنا نتندر بها أنا وزميلي الدكتور ناصر الحميدي.
* * *
(6) ومباشرة بعد صلاة العشاء واكتمال الحضور والجمهور الذي لم يتجاوز العشرين من مثقفي المحافظة، بدأت الأمسية بكلمة ترحيبية من المشرف على الصالون الثقافي الأستاذ مساعد بن حمزة القوفي، ثم بدأ الدكتور ناصر مدير الحوار والأمسية ثم أُعطيت الكلمة لأبدأ المحاضرة التي أسميتها مسامرة وحواراً أخوياً حول فضاءات (يوم التأسيس تاريخ وشعر) واخترت لها عنواناً وهو: من التأسيس إلى الرؤية.
د. يوسف حسن العارف
مقالات سابقة للكاتب