“لقد نزل هذا القرآن لهدايتك، لتأهيلك للحياة، لبناء فكرك ومفاهيمك، ولم ينزل للبركة فحسب!” [رمضان يبني القيم، د. مشعل الفلاحي، ص(4)].
يحتاج المرءُ منا أن يخرج من رمضان وقد وطّد علاقته بالقرآن، لا باعتبار دوام تلاوته فحسب، بل باعتبار الوقوف عند مواعظه، والاعتبار بقصصه، والتفكر في استفهاماته، ليقود كلُّ هذا المرءَ إلى تفقد نفسه ومحاسبتها بشكل دائم، في حالها مع خالقها ثم حالها مع الناس.
ولعل من مُعينات النفس على الترقّي بالقرآن والانتفاع به: الوقوف. بمعنى أن نقف أثناء التلاوة لأمرٍ لفتنا إليه، وقوف سؤال، سؤال عن المعنى أو سؤال عن الحال.
قف عند ذكر القرآن للإجرام والمجرمين، والظلم والظالمين، ستجد معانٍ أوسع من التي نحصر أنفسنا بها اليوم.
قف مع الآيات التي فيها وَصف لأفعال الكفار بأصنافهم، أو ذِكر لأقوالهم.. قف وقوفًا للاعتبار، ثم تتبع: كيف أرادنا الله أن نتعامل معهم كلما ذكر شيئًا عنهم؟ وكيف حذّرنا أن نكون مثلهم أو نحذو حذوهم! وأكثرَ من إخبارنا عن الماضين من الكافرين من خلال القصص، وعن الحاضرين منهم من خلال الأفعال، وعن مستقبل الجميع منهم!
قف مع النواهي الصريحة البليغة الصادقة {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا} {لا تتبعوا خطوات الشيطان} {لا تخونوا الله والرسول} {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} {لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} {ولا تكونوا كالذين نسوا الله}… وسَلْ نفسك، واجعلها من معايير التقييم والأداء.
قف مطولًا عند الحوارات المذكورة في القرآن: كحوار أهل الجنة والنار، وحوار أهل النار لخزنتها؛ قف وقوفًا يجعل قلبك يستعيذ بالله أن يعيش ذلك الحوار كأحد أفراد أهل النار.
قف متأملًا تلك المواضع التي فيها كلمة “يا ليت” نحو: {يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} {يا ليتني قدّمتُ لحياتي} {يا ليتني كنتُ ترابًا}؛ واستشعر الغُصّة فيها وتقطّع القلب حسرة.. واستعذ بالله، والجأ إليه، فهو الهادي والـمُوفِق لكل خير، والحافظ من كل شر.
قف مع جزء عمّ كثيرًا كثيرًا.. أرجوك أرعِه قلبك! ففيه قوارع عِظام، وأخبار جِسام! وأمور مهولة؛ لما اعتدنا ترداده منذ الصغر غفلنا عما فيه! بينما فيه مثل قوله: {فإذا جاءت الصَّاخّة، يومَ يفرّ المرءُ من أخيه، وأمِّه وأبيه، وصاحبتِه وبنيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه} ومثل قوله: {وإذا الصُّحُفُ نُشرت، وإذا السمآءُ كُشطت، وإذا الجحيم سُعّرَت، وإذا الجنة أُزلِفت، علمت نفسٌ ما أحضَرت} ومثل: {إنَّهُ لَقولٌ فَصل، وما هو بالهزل}…
قف وأحيي قلبك.. وعاتب نفسك؛ قبل أن لا ينفع العَتب.. فإن كان الوقوف مع كتاب الله خير وإلى خير، فخيره ما يدعو المرء للإصلاح والعمل.
وإن من أسوء الانتكاسات الظاهرة: تلك التي تجعل صاحبها كأنما ضمن كمال الإيمان ومقاليد الجِنان! فيطمئن على حاله فلا يحاسب نفسه ولا يتعاهدها ولا ينصحها ولا يعاتبها، وإنما يتركها على هواها أو هوى الناس! وقد يظن نفسه بهذا محسنًا الظن بالله! بينما الحقيقة أنه وقع في تلبيس الشيطان: فيتوهم أنه مُحسن الظن بربه بينما هو عاجز كسول لا يعمل..
فلننتبه! فـ”حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه. فإن العبد إنما يحمله على حسن العمل حسنُ ظنه بربه أن يجازيه على أعماله، ويثيبه عليها، ويتقبلها منه. فالذي حمله على العمل حسن الظن، وكلما حسُن ظنه حسُن عمله، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز” [الداء والدواء، ابن القيم، ص(48)] لقد أُمرنا بحسن الظن وليس بالاغترار بالحال، والعمل والمحاسبة إنما يقترنان بالأول وليس بالثاني.
“ترجو النجاةَ ولم تسلك مسالِكها … إنّ السفينةَ لا تجري على اليَبَسِ”
فلا يفارِقَننا رمضان؛ إلا وقد تزوّدنا في وقفاتِنا مع القرآن ما يعينُ سُفنَنا على الجريان.
جمانة بنت ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب