في الحي المجاور لبيتنا القديم الذي وعيتُ فيه على الدنيا؛ قصر أبيض، يُطل على شارع عام، يستقر هنالك على مرأى السيارات المارّة عند تقاطع الإشارة، وفي المقابل كانت السيارات على مسمع أهل القصر فيما أحسب.
لستُ من مُفضلي اللون الأبيض في كل حالٍ ومجال، ولكن ذلك البيت كان نموذجًا لقصر الأحلام، إذ بدا لي جميلًا ساحرًا آخّاذًا للنظر من كل زواياه التي أراها عند مرور سيارتنا إن احتجنا للعبور بطريقه.
وكما ينتهي الطريق لا محالة، انتهت أيامنا في ذلك الحي وانتقلنا، وما لبث عُمُر الطفولة أن انتهى بغير أملٍ في رجعة، ومضت ذكراه وأُرشفت في تلافيف الدماغ وشرايين الفؤاد، ثم كان قَدْر ذلك القصر بعد سنوات مجرد صورة موضوعة في مكانٍ غير مهم من مكتبة وثائق ضخمة! أو كأنما هو صورةٌ بالأبيض والأسود لا قيمة لها، وسط آلاف من الصور القيّمة معنويًا أو فنيّا!
الذي حدث أني عدتُ بعد سنواتٍ طِوال لسلوك ذلك الطريق مرةً واحدة كل أسبوع؛ وكان لأول نظرةٍ تبادلتها مع القصر شأنها: شيءٌ من حنين الأيام وذكريات الأحداث، وشيءٌ من براءة الآمال وفأل التوقعات، ولكن لا شيء من دهشة الجمال الآخّاذ، ولا سحر البياض النّاصع، بل كان باهتَ اللون متقشّر الأطراف! حتى حجمه لم يعد كبيرًا مدّ البصر كما ظننتُ أول مرة! وتبدّت لعينَي عيوبٌ لم تسجلها ذاكرتي عنه!
أتساءل: هل تغيّر القصر؟ أم أنا التي تغيرت؟ أم كانت هذه حقيقته التي لم ترها عيني المجردة، ثم رأيتها بعينَي الخبرة والواقع؟ لو أبقيتُ صورته الجميلة في الذاكرة كما هي ولم أشكك في ناظري حينها، فأحسبُ أن كلَينا قد تغير اليوم، فلا هو هو، ولا أنا أنا.
شيءٌ من الإسقاطات يبرز على بالي، شديد الشَّبه بحالَتينا:
لقد تغير القصر بخضوعه لصيرورة الوهن والضعف من بعد القوة والبهاء، ولم يملك أن يُخرج نفسه من تداعيات الأحداث اليومية والعوارض البيئية، كأنما هو الأرض التي أخذت زخرفها وازيّنت ثم أتاها أمر الله فصارت حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، وكأنما هو زهرة الحياة الدنيا، بل كأنما هو الإنسان يستوي ويكبر ويتنقّل حتى ينتهي من رونق الشباب ويذلف إلى كَنف المشيب! وإنّ ما حدث لهذا القصر لا يختلف عما يجري لكل المخلوقات في هذه الدنيا، فهو وهم ونحن صائرون جميعًا إلى ضعف فزوال!
قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. “وهذا المثل من أحسن الأمثلة، وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتمّ اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها..” وصدق أبو العتاهية في ختام إحدى قصائده:
“وَمُنقَضٍ ما تَراهُ العَينُ مُنقَطِعٌ
ما كُلُّ شَيءٍ يُرى إِلّا لِيَنقَضِيا”
أما أنا فلا شك أكثر تغيرًا من ذاك القصر الذي لا يتزحزح عن الأرض، فكم قد رأت عيناي من قصرٍ كبيرٍ حسنٍ غيره؟ قليلٌ منها معدودٌ واقعيًا، وكثيرٌ لا حصر لعدده افتراضيًا! فلم يُبقِ الإعلام والانترنت والمونتاج والذكاء الاصطناعي شيئًا إلا وحشروه في أعين الناس ولو لم يدخل حقًّا دنياهم! ولا ينحصر هذا في المساكن والضِياع والمقتنيات والجمادات، بل يتسع ليشمل نظرة المرء لنفسه وتوقعاته من الناس والعلاقات!
فمثلًا: كثرة رؤية النساء الحائزات على معايير الجمال المثالي المعولم، وتصديرها إلى الناس من مختلف الحضارات أصبحت ظاهرة ذات أثر نفسي واجتماعي سيء على السلبيين الذين يُسلّمون لما يرون دون تمحيص لحقيقة المعروض أمامهم. فكما أن رؤية مختلف الدُور والقصور تُزهّد في جمالية منزل الشخص ومستقرّه، فكذلك انطلاق البصر دون قيد أو شرط تجاه بني آدم المتجمّلين والمهندمين في فضاءات الإعلام والانترنت.
بالتأكيد يختلف الأمر بحسب حصانة الرائي وقناعاته، ولا يلزم أن يعمّ الضرر الجميع، لكن بإجمال تشير الكتابات إلى الأثر السلبي لتبني الجمال المعولم، والذي ما كان ليؤثر لولا انفتاح الرِّقاع على بعضها، وامتداد الأعين وإطالة النظر.
ونهاية المرء مع كل تُخمة نتجت من الصور ومدّ البصر –في الشيء الحي وغير الحي- إحدى ثلاث نهايات: يملّ فلا يبقَ شيءٌ يُبهره، أو يطمع فيحسد فلا يستقرّ في قلبه دفءٌ يُسعده، أو يسكن قلبه بعد طول تفكّر ومراجعة، ويرضى بما له مترقِّبًا الجمال والخير فيما بين يديه وهو كثير.
وإن حسِبه قليلًا؛ فليُربِّ نفسه على استحضار حقيقة الدار كلها، والتي ذكّرنا بها تغيّر القصر وبُهته بعد البهاء، صارخًا بلسان الحال أنّ مآل كل الدنيا إلى زوال، وأن اكتمال القوة والجمال ودوام أحوال الكمال لم يكن يومًا في هذه الدنيا إلا من المحال.
كم كان أبو العتاهية حكيمًا حين اختار مطلع تلك القصيدة أن تكون:
“إِنَّ السَلامَةَ أَن تَرضى بِما قُضِيا لَيَسلَمَنَّ بِإِذنِ اللَهِ مَن رَضِيا”
ليست المسألة قصرًا أو معايير جمال! بل المسألة كلها في القناعة بما يملكه المرء، وفي يقينه المعقود أن ما ملكه هو وغيره كلاهما فان! فلا ينشغل الحصيف بالمنقضي عن الباقي، فيُحرم سلامة القلب وسكينة الرضى.
ومن المدهش أن اختصار الدرسين عن التغيّر وبسط النظر جمعهما القرآن في آية، وبكلمات وجيزة! قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} “أي: لا تنظر إلى أهل الدنيا وما مُتّعوا به من النعيم، ومن المراكب، والملابس، والمساكن، وغير ذلك. فكل هذا زهرة الدنيا، والزهرة آخر مآلها الذبول واليبس والزوال، وهي أسرع أوراق الشجرة ذبولًا وزوالًا، ولهذا قال: زهرة، وهي زهرة حسنة في رونقها وجمالها وريحها -إن كانت ذات ريح- لكنها سريعة الذبول، وهكذا الدنيا، زهرة تذبل سريعًا..”
الآن وقد بقيت لي مرة أو مرتان لرؤية القصر الأبيض في الطريق، أظنني سأحب تذكيره لي بهذَين الدرسَين اللذين استحضرتهما من خلاله، وسأسعد برمزيته الدائمة لأحلام الطفولة، وسأندهش من عراقة جماله مع رسوخ قدمه.
جمانة بنت ثروت كتبي
25 / 10 / 1445هـ
مقالات سابقة للكاتب