مدرسة الحج

وما زال وفدُ الله يقصدُ مكةَ … إلى أن بَدَا البيتُ العتيقُ ورُكناهُ

فضجّت ضيوفُ الله بالذكر والدُّعا … وكبّرتِ الحُجّاجُ حين رأيناهُ

وقد كادت الأرواح تزهقُ فرحةً … لِما نحنُ من عُظمِ السرورِ وجدناهُ

هذا ما قاله أديبٌ، واصفًا مشهدًا من مشاهد الحج، ومشارِكًا لشيءٍ من مشاعر الحجيج.

وبعد.. مكثَت مسودة هذا المقال عندي أكثر من أسبوع، لا أجد لتتميم فراغاتها مليئًا، ولا أقدّرُ لتجويدها سبيلًا؛ حتى أوشك هلال المحرم على الإطلال! فخشيتُ طلّته قبل أن يُفضيَ الكاتب جَعبته! فآثرتُ تقديم المكتوب على ما هو عليه، ولكن قدّمتُ له بالتنبيه على الوسم الأعظم، والسّمت الأبرز، فالحج لا يكمل إلا به، والحجيج ما فاضت عيونهم إلا بدَرْكِه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وأعمالُ الحجِّ مَبناها على الخضوعِ والذُّل.” [شرح عمدة الفقه، (5/273)] وقال تلميذه ابن القيم -رحمه الله-: “فإنَّ الحجَّ والنُّسُكَ عبوديةٌ محضةٌ لله، وذُلٌّ وخضوعٌ لعظمته.” [التبيان في أيمان القرآن (1/40)]

الحج مدرسة، وكل حاجٍّ يتخرّج منها بدُروسٍ يختلف عددها، ولعل أبرز ما يُرجع به إلى الديار:

· جلاء ضعف الفرد بنفسه، وجلاء ضعف جنس البشر جميعًا. فالفرد ضعيف محتاجٌ إلى أمور كثيرة، ومن ضمنها حاجته للدليل والمرشد، وللمُعين والمؤنس. وضعف الجماعة أمام الخطوب والعوارض، واستيلاء النواقص والمكدّرات عليها لا محالة. وأيًا كان مظهر الضعف الذي يتبّدى للحاجّ، فالمقابل الذي ينبغي استحضاره هو عظمة الله الواحد الصمد، الذي انفرد بكماله وغناه عن كل شيء.

· حقيقة الحياة الدنيا، وما رُكّبت عليه من كدر، كالحر ونفحِه، والغبار ونثرِه، وتقلّبها فما تثبت على حال! فيومًا على فراش ناعم وآخر على حصير خشن، ويومًا يطعم المرء ما يُحب وآخر يكتفي فيه بما يسدّ ثورة الجوع، ويومًا معززًا بانفراده في المعاملات، وآخر مضطربًا بين طابور الخدمات.

· مسؤولية الفرد عن نفسه أمام الله، وأنه آتِيهِ بمفرده وسائِلُه عن عمله، وأن كل هذه الجموع لا تُغني عن المرء شيئًا. فمشهد الحجيج المهيب الذي يسدّ أفق المشاعر؛ لا يلبث أن يُذكّر الناظر بالقيامة والحشر والحساب، والفرار والتبرّي والمحاسبة والقصاص والشروع في دخول دار الجزاء. ولو لم ينطق الحاجّ، فحديثُ قلبه: رُحماك ربّنا رُحماك.

· الالتئام مع الجماعة والاعتصام بها، وأنْ لا ينفرد الحاج عنها في تحركاته قدر الإمكان.

· التفريق بين الحاجة الضرورية والتَّرف.. هذا الدرس بليغٌ جِدّ بليغ! وسيضطر الحاج للتكيّف لا محالة، وسيكتشف قدرته على ذلك اختيارًا أو اضطرارًا. وأما مَن بقي صامدًا على طبعه وطقسه؛ فأخشى أن هذا مما يشير إلى عُلو أنفه!

· تقدير نعم الله أكثر، خصوصًا ما اعتاد الإنسان عليه حتى لم يظن يومًا أن يفقدها: الكهرباء، الفراش، الماء البارد…. حتى دورة مياه منزله. فقد تطرأ أيام الحج طوارئ، وتحكمها ظروف وطوارق، ومَن خلُص قصُدُه؛ لم يلتفت كثيرًا إلى مكدّرات الطريق وعوائقه، فهو يعلم أنه ليس في الجنة، فلم تكمل دارٌ سواها.

· إدراك أن الحقيقة البشرية واحدة، فكل بني آدم مهما اختلفت ألوانهم وأعراقهم وألسنتهم، فكلهم متّحدون في حوائجهم، ويعتري الفرد منهم ما يعتري البقيّة، ويقصدون -من حيث الأصل- مكانًا واحدًا يبتغون به مرضاة الله تعالى. أمام هذا الإدراك تنتفي الفوارق الوهمية التي يسنّها الناس للناس.

هذه دروس الحج بإيجاز، قيّد تفصيلها الوقت، وحَكَم بعدم بَسطها قَدُر ما تيّسر من جلاء الخاطر. والحج عمومًا يجعلك تعيد حساباتك، ويجعلك تستعيذ بالله من حرّ جهنم، ويجعلك تحمد الله كثيرًا على ما لديك.

وأخشى على مَن خرج من الحج متسخطًا متذمرًا أنه لم يعي المراد، ولم يفقه المطلوب! وكأنه ظنّ الحج نزهةً ترفيهية أو رحلةً سياحية! وما استحضر أن الحج صورةٌ من صور الجهاد. فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: (يَا رَسولَ اللَّهِ تُرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ) [رواه البخاري: 2784] “وسُمي الحج جهادًا إما من باب التغليب، أو على الحقيقة، والمراد جهاد النفس؛ لِما فيه من إدخال المشقّة على البدن والمال..” [الدُّرر السَّنيّة]

وقد أحسن د. خليل الحدري التعبير عن هذا المعنى فغرّد قائلًا: “تأملوا كيف يحج الناس إلى المشاعر المقدسة، يأتون من أصقاع الأرض، في بذل جسدي ومالي ونفسي عظيم، قاصدين وادٍ غيرِ ذي زرع، في أمكنةٍ ضيقة، وأجواءَ حارة، وزحامٍ شديد، بين جبال شاهقة؛ لا ترى مظهرًا من مظاهر الترفيه، أو صورة من صور السياحة…. لو أراد الله لجعلها -مكة- جنة الدنيا! أليس هو الذي خلق هذا الجمال في العالم! لكنه أرادها كما هي. فلماذا كل هذا لتعلموا أن شعائر الحج المكانية والزمانية وطريقة الأداء كلها عبادات توقيفية، ولأن الحج نوع من الجهاد، فالله يختبرنا ليعلم صدقنا وصبرنا وإقبالنا. ومع ذلك ترى الحجاج يُقبلون والسعادة تملأ قلوبهم، وتهزّ أرواحهم، ومؤشراتها في ابتساماتهم البارعة، وأكفّهم الضارعة، ومشاعرهم التي يتحدثون بها لمن حولهم.”

جعلني الله وإياكم ممَن قدّر الله له في كتابه حجًّا مبرورًا.. وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

جمانة بنت ثروت كتبي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *