منذ ثلاثة عقود ساقتني رياحُ الخير للاستقرار بعروس البحر جدة؛ بأسرة ناشئة لديها طفلان أحدهما وُلـِدَ معاقًا؛ ومن الطبيعي الحاجة الماسة لمثل هذه الأسرة لطبيب يجمع بين الكفاءة والأمانة والصبر والإخلاص؛ فدلني المحبون على الدكتور عبد الجواد الصاوي بعيادات الهُدى بالشرفية؛ الذي كان نعم الطبيب الحاذق الأمين الصبور البشوش المتفائل والمبشر دائمًا بالخير؛ والذي كان يتسع صدره لنا أن نداهمه بمنزله في حالات الطوارئ.
ولأن الأرواحَ جنودٌ مجندة سرعان ما توطدت علاقتنا وعقد الله بيننا علاقة وثيقة من الصداقة والاحترام المتبادل، خاصة وقد علمتُ أنه صعيديٍ أصيل من أبناء ديروط الكرام؛ وأنا زوجتي من الصعيد وفيه نشأتُ وترعرعتُ، ثم توثقتْ علاقتنا أكثر بعد أن تولى فضيلة الدكتور عبد الله المصلح منصب الأمين العام “للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة” وكان الدكتور عبد الجواد ساعده الأيمن فيها؛ والمشرف على تنسيق أعمالها.
كان الدكتور المصلح حينها يرأسني في “هيئة الإغاثة”؛ وكان من حسن ظنه بي كثيرًا ما ينتدبني لأعمال “هيئة الإعجاز”؛ فأتيح لي المشاركة في الإعداد والتحضير للعديد من فعاليات الهيئة من معارض وندوات ومؤتمرات ومطبوعات؛ بل والمشاركة الفعلية في هذه الفعاليات؛ خاصة بعد أن تم تكليفي بالمشاركة في تحرير مجلة الإعجاز مع العالم الفاضل أ. د. صالح كريّم.
وطبعًا أتاح لي ما سبق الاقتراب أكثر من الدكتور عبد الجواد واكتشاف المزيد من جوانب شخصيته المبهرة؛ باحثًا رصينًا دؤوبًا جادًا مثابرًا؛ وشخصية ألوفة بسّامة لطيفة المعشر؛ لا تملُّ من حلو حديثه؛ وحسه الدعوي العالي وعلمه الغزير وهو ابن الأزهر الشريف، وكان هاجسه إبان زهوة الاهتمام بقضايا الإعجاز؛ ترشيد هذا الاهتمام بين طائفة منكرة ومشككة؛ وطائفة متعسفة تحاول تحميل النصوص الشرعية ما لا تحتمله؛ فكان بمثابة الحارس اليقظ الأمين.
لعدة سنوات اقتربت من أبي محمد وقد كان القلب النابض والمحرك الناشط للهيئة، يبحث ويؤلف ويقدم المحاضرات ويشارك في الندوات، ويراجع ويدقق الأبحاث العلمية المقدمة ويسجل الملاحظات ليعدلها باحثوها، ويقوم بأعمال إدارية ويسافر لترتيبات تحضيرية، ورغم ذلك كله يواصل دراسته حتى حصل على الدكتوراه في الطب البديل.
وقد جمعتني به الأسفارُ التي تسفر عن معادن الرجال؛ خاصة في مؤتم ساو باولو (البرازيل) وغيره، ورغم كفاءة الفريق العامل بالهيئة وتميز العلماء المتعاونين معها؛ إلا أنَّ الصاوي كان هو السلك الناظم لكل هذه الجهود، فكأنما كان “عبدُ الجوَّاد” الفارسَ والجوَاد.
وتمضي السنون وتفرِّقُنا مشاغل الحياة ومشاكلها؛ إلا أن تواصلنا لم ينقطع؛ وكانت آخر رسالة لي منه؛ عزاءه لي في ابني أسامة (مريضه القديم)؛ لم يلبث بعدها سوى أيامٍ ليلحق به؛ وقد حالت ظروفي دون توديعه في فراش مرضه؛ ولعل ذلك رأفة من الله لقلبي المحب المكلوم.
رحم الله عبدَ الجواد الصاوي وجزاه على ما قدمه للإسلام خير الجزاء؛ وأحسن العزاء لأبنائه وجعلهم خير خلفٍ لخير سلف.
مقالات سابقة للكاتب