🖋️في كل كتاب من كتب التراجم والسير للأعلام ثـمَّة تراجم تلمَعُ لموعًا، تشع بين الصحائف كأنها أضواء مدينة من بعيد، توشك أن تلوِّح بكلتا يديها بين السطور، ينخفض فيها حضور المعلومات المتمحِّضة لصالح الانفعالات المتمخِّضة!
لا يرجع هذا بالضرورة لسببٍ يتصل بالمترجَم، وإنما قد يكون لحالةٍ خاصة بواضع الترجمة، علاقة عاطفية مع العَلَم، ينشأ عنها روح دافئة تسري بين الألفاظ، تكاد تحسُّ دبيبها، وتسمع أنينها، وتجس نبض حروفِها، خلجات صادقة ومشاعر مرهفة تستعصي على التجاهل، وتعاند إرادة الكتمان، اقرأ على سبيل المثال ترجمة سفيان الثوري، أو ترجمة الإمام أحمد في سير أعلام النبلاء توقن أن عبارة الذهبي التي استهل بها الترجمة: (هو الإمام حقا وشيخ الإسلام صِدْقًا) لم تكن مجرّد مجاملة ندَّت من قلمِ أديبٍ يرتِّب الكلمات، وإنما هي عبارة ولدت من قلبِ وامقٍ والهٍ ترك لمشاعره أن تصطفَّ تباعًا في هيئة مفردات!
علائق راسخة:
وقد تتألق بعض التراجم في بعض التصانيف لوجود علاقة شخصية بين صاحب الترجمة وواضع الكتاب، من ذلك ترجمة الشيخ عبدالله البسام لرفيق دربه وأنيس روحه الشيخ الموهوب علي الزامل رحمهما الله، فعلى قِصَر تلك الترجمة نسبيًّا إلا أني وجدتّ في جردِها لذَّة، وآنست بين صفحاتها صدقًا، ورأيت في تضاعيفها فوائد.
تواخى الشيخان في زمن الصِّبا وسنوات اليفاعة الأولى، والتقيا في حلقة الشيخ السعدي، ونشأت بينها مودة خاصة، ولذلك لما سافر الشيخ البسام إلى الطائف ملتحقًا بدار التوحيد شقّ عليه فراق صاحبه، وهزه الشوق إلى رفاق الطلب، واستوحش بالبعد عنهم، فبعث لصديقه هذه الأبيات الحرى:
ألا هل لأيام القصيــم رجوع؟
فإنــي بها -مــــهما أنستُ- ولوعُ
وهــل لــي بأيامٍ مضيــــن بأوبةٍ تخـــفف من همٍّ طوته ضــلوع!
فما طلعت شمس ولا لاح بارق
من الشرق إلا تستفيض دموع!
جلالة الموهبة:
كان الشيخ الزامل من فَلَتاتِ الزمان في الحفظ والفهم، وحباه الله تعالى إمكانياتٍ خاصة قلَّما تراها بين جنبي إنسان في القرون المتأخرة، فقد (وهبه الله سرعة في الحفظ، وبُطأً في النِّسيان، وحدَّة في الفهم، وبصيرة متوقدة، فصار له من هذه المواهب الجليلة أكبر عونٍ على استيعاب العلوم حفظًا وفهمًا فتحصيلا)، وشواهد هذه الحقيقة كثيرةٌ في الترجمة، ولكن نقتصر على شاهد واحد، وهو شاهد كاشف عن مدى موهبة الزامل في الحفظ!
وهو كون الشيخ عزم على حفظ متن منتهى الإرادات! ولم تكن هذه العزيمة مجرَّدَ أحلامٍ عابرة تطيف بطالب علمٍ قبيل إخلاده للنوم ثم تتبدّد مع حرارة الشمس، بل إن الزامل شرع في المسير نحو هدفه الذي رسمه لنفسه، فبدأ من أول الكتاب حتى وصل إلى (باب صلاة الجماعة)، وليس العجب من هذه العزيمة المذهلة، ولا حتى مِن بلوغه باب صلاة الجماعة، ولكن العجب مِمَّا حكاه البسام من طريقة الزامل في الحفظ، فيحكي الشيخ البسام هذه القصة الكاشفة عن موهبة فذة من نوادر المواهب:
(ولقد حضرته وعنده قارئه، فكان القارئ يقرأ الفصل الطويل من متن هذا الكتاب المعقد في جُمَلِهِ ومعانيهِ، يقرأ عليه قارئه الفصلَ مرتين، ثم هو يعيد الفصل في المرة الثالثة!).
الولع بالتطبيق:
كان من سمات مدرسة الشيخ السعدي الولع بالجانب التطبيقي من العلوم، وترك الإيغال فيما لا محصلةَ من ورائه، وهو يتتبع العلم النافع ويجتهد في تخليصه من ركام الجدل وأوهام السفسطة، ثم يقدمه سائغًا للشاربين أيًّا كانت درجتهم في العلم، كما ترى ذلك ظاهرًا بيِّنًا في تفسير (تيسير الكريم الرحمن).
وتركت هذه النزعة نحو التطبيق أثرًا ظاهرًا على مدرسته وطلابه، فكان الشيخ الزامل مولعًا بإعرابِ أيِّ كلام يسمعه، حتى الكلام الذي يدار في مجالس الأُنس، فصار له ملكةٌ عاليةٌ في الإعراب ومعرفة مواقع اللفظ، وقد بلغني من بعض طلاب العلم في عنيزة أن الشيخَ ابنَ عثيمين -وهو من أقران علي الزامل- كان يلغِزُ على بعض الطلاب في مضائق النحو ثم هو يأذن لهم بالرجوع إلى أي مرجعٍ عدا علي الزامل، فلقد كان الشيخ الزامل نحويًّا متمرِّسًا، ولهذا التمكن فإنه شرع في إعراب القرآن، وقطع فيه شوطًا حسنًا، ثم إنَّه اطلع على كتاب الجدول في إعراب القرآن وصرفه، فصرف نيَّته عن ذلك المشروع.
صفاء الروح وفرط الشعور:
كانت لدى الزامل فراسة لا تخطئ، وفتح الله له روزنة في تعبير الرؤى، وعُوِّض عن انكفافِ بَصَرِه ببصيرةٍ نافذة، فكان يمشي في شوارع مدينة عنيزة القديمة كأنه مبصر، فإذا وصل إلى منعطفٍ في الطريق انعطف بلا تحرٍّ ولا عصا.
وأمثال هذه الوقائع العجيبة متكررة في حياته، يقول زميله البسام عن تلك الوقائع: (رأينا منه من هذا النوع أشياءَ غريبة جدا، تدلُّ على فطنةٍ نادرة وإحساسٍ غريبٍ منحه الله إياه).
قرة عين شيخِه الوقور:
كان الشيخ السعدي -شأنه شأن غالبِ علماءِ نجد- مقتصدًا في كثرة الإطراء، معتدلا في إرسال ألقاب الثناء، مُقِلًّا من كَيْل المديح على الناس، إلا أنه رغم ذلك كان مغتبطًا بهذا الطالب الضرير، فكان يثني كثيرًا على مواهبه في الذكاء والفهم.
وأما عبادة الشيخ الزامل فيكفي أن تعلم أن صلاته تبدأ بعد مضيِّ ثلثي الليل إلى الفجر، ثم يصلي الفجر جماعة ويجلس يتدارس القرآن حتى ترتفع الشمس ثم يصلي ركعتين، مواظبًا على الفرائض والرواتب والسنن.
وأما وَرعُه فيتمثل جليًّا في كفِّه عما لا يحسن من العلوم والمسائل، ففي ترجمته أنه كان لا يجد حرجًا في أن يقول: (لا أعلم)، لما ليس يعلمه من المسائل، ويتمثل بهذين البيتين دائمًا:
إذا ما قتلتَ الشيء عِلمًا فقلْ بِهِ
ولا تقلِ الشيء الذي أنت جاهله!
فمن كان يهوى أن يُرى متصدرًا
ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله!
وأما خُلُقه فكان متواضعًا سهلا ليِّن العريكة، يكرم أضيافَه بالقولِ وبالفعل، وكان ممن يستحلي العطاء ويسعد بالبذل، لا يتأخر عن إقراض المحتاجين، وتلك غاية الكِرام الكبرى من اتساع الأرزاق، ولذلك فإن الزامل إذا عوتب على إنفاقه استشهد بقول المتنبي:
لمن تطلبُ الدنيا إذا لم تُرِدْ بها
سرورَ محبٍّ أو إساءةَ مجرم!
حسرات الصديق:
كان البسام يتحسَّر كثيرًا على مواهبِ رفيق عمره التي يعرفها جيِّدًا، فكان يرى أثَرَه أقلَّ من موهبَتِه، ونفعَه دونَ إمكانيَّاته، وكان يسكب الحسرات تِباعًا في مواضعَ مختلفةً من الترجمة، ثم هو يتبرع بتحليل هذه الظاهرة المتكرِّرَة في تاريخ العلوم والمعارف، فمرةً ذكَرَ أنَّ صديقَه (لو استغل هذه المواهب الجسيمة بحرص وجلد .. لكان من نوابغ الزمان، ولكن إذا كمل الإنسان من جانب جاءه النقص من جانب آخر، ولله تعالى في خلقه شؤون)، ومرةً علل هذا الخفوت لزميله الموهوب لأنه: (يؤثر الخمول، وعدم الظهور مع غلبة عدم الجدية عنده في متابعة العلم)، ومرةً ذكر أنه (ليس صاحب جلد على متابعة العلوم والتأليف، وإلا لكان له شأنٌ كبير جِدًّا؛ لما وهبه الله تعالى من حافظة واعية، وفهم متوقد، وفكر صائب، وسرعةِ خاطر)، ولا شكَّ أن العلم حتى ينتج ويثمر يحتاج إلى متابعة مستمرَّة، والزامل كان كذلك بلا ريبٍ في زمن التحصيل، وشواهد ذلك كثيرة في مسيرة حياته، ومن ذلك ما وَرَدَ في ترجمته أنه كان (لا يدع الفائدة العلمية تفوته من أيِّ أحد)، فلذلك قرأ على جمعٍ من العلماء، ولكن ربما يشير الشيخ البسام إلى المتابعة في زمن العطاء، وهذه لا تقلّ أهمية عن المتابعة في زمن التحصيل.
الهدر الخفي:
ولكن لفت انتباهي عبارة ذكرها الشيخ البسام، وهي عنوان هذه المقالة، يقول البسام:
(لو ساعد هذه المواهب العظيمة إقبال منه وحفظ للوقت، لكان له شأن كبير، ولكنه رحمه الله يميل إلى محادثة الأصحاب الأخيار)، هذا مع كون الشيخ الزامل له مجلس مدارسة في التفسير بعد صلاة الفجر أكثر من ثلاثين سنة، وبرامج علمية أخرى لم تنقطع.
ولكن لا يعنيني مدى انطباق هذا التعليل على الشيخ الوقور الزامل، وإنما يعنينا هنا التقاطُ خيطِ التحليل الذي ذكره البسام، فهو في غاية الدِّقَّة مع نماذج أخرى في الواقع، فطولُ (محادثة الأصحاب الأخيار) هي من أدواء النوابغ من طلاب بالعلم في كل عصر، وهي الهدر الخفي الذي لا يكاد يشعر به صاحبه، فيتسرَّب زمان الإنسان من بين يديه وهو يقلِّب بصره في سُحُناتِ صديقِه، يلتقيان ويسكبان معًا قِلال أعز الأوقات، تتوالى اللقاءات بانتظام لا يكاد ينخرم، تتصل المجالس أحيانًا حتى بزوغ الفجر، وربما خَلَتْ تمامًا من أحاديث تغذي العلم والإيمان، ومع طول العهد وتراخي الزمان وتتابع المجالس يقتصر اللقاء -في أحسن الأحوال- على إدارة كؤوس الوقائع والأحداث!
أوصى بعض السلف أصحابه، فقال: (إذا خرجتم من عندي، فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم، تحدثتم)، فمن تمام التوفيق عمارة الأوقات الضائعة، واغتنام ما بين البرامج من الساعات.
ومن المعلوم أن المقصود هو ذمُّ الإفراط في هذه المجالس، أما أصل اللقاء وأُنس النفس وبعث بهجتها بالمحادثة وقصد إجمامها بذلك، ثم تخلُّلُ المجلس شيءٌ -ولو يسيرًا- من الفوائد، فما أجلّها وأجملَها من لقاءات!
بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب