🖋️كان تفكير الشيخ السعدي متجهًا نحو النافع من العلوم، كأنما كان بين قلبه بوصلة دقيقة تنجذب إلى قطب، فبينما يحفر كثير من المشتغلين بالعلم الشرعي في العلوم المتاخمة لعلوم المقاصد، ويحومون حول الحمى ولا يكادون يرتعون فيه، كان الشيخ مولعًا باستنطاق النصوص الشرعية، يقضي جُلَّ وقته باستنباط الأحكام مِنها، وكانت له حفاوة بالغة بعلم تفسير القرآن ويقول عنه: (لو أنفق العبد جواهر عُمرِه في هذا الفنِّ لم يكنْ ذلك كثيرًا)، وعلى ضوء هذا الاهتمام البالغ صنَّف تفسيره الحافل المبارك (تيسير الكريم الرحمن)، وكانت له مع هذا الكتاب طريقةٌ حسنةٌ في تأليفه جَمَعَ بها بين الإلقاء والتحرير، وله أيضًا (تيسير اللطيف المنان)، و(فتح الرحيم الملك العلام)، و(المواهب الربانية من الآيات القرآنية)، و(فوائد مستنبطة من سورة يوسف)، وغيرها، وأما في علوم الحديث النبوي فإلى جوار دروسِه الشفهية في (بلوغ المرام)، وفي (المنتقى)، فقد وضع كتابًا جمع فيه تسعة وتسعين حديثًا من الأحاديث الجوامع، ثم استنبط من هذه الأحاديث النبوية استنباطات لطيفة للغاية، وهذا النتاج في فقه الوحي ليس من تفريغات الطلاب وجمع المحبين، وإنما خطَّه الشيخ بيده وقلمه، ونحن اليوم نشعر بغزارة هذا النتاج لا سيما إذا استحضرنا أنه خرج من رَحِمِ بيئة تؤثر الإلقاء الشفهي، ومرحلة ظرفية شاع فيها الركود العلمي، ومن قلم شيخ يضطلع بمهامٍ كثيرة، لكن العالم الحقيقي يدرك جيِّدًا أنه ليس تاجرًا يتتبع المواسم، ثم يغيّر مجالَه ويطوي بساطَه إذا كسدت البضائع!
وهكذا كان العلماء النافعون في كلِّ عصر، فقد يكتب الله لعلومهم حياةً خالدة بعد الركود، فمن كان يصدِّق أن رأس متأخري النحاة، والذي يمكن أن يؤرَّخَ علم النحو بما قبله وما بعده، فيقال: مرحلة ما قبل ابن مالك، ومرحلة ما بعد ابن مالك! من كان يصدِّق أنه جاء في ترجمة هذا الفذّ أنه لا يجد أحدًا يدرِّسه؟! فكان يقوم إلى الشبَّاك وينادِي: القراءات القراءات! العربيةَ العربيةَ! ثم يدعو ويذهب، ويقول: أنا لا أرى ذمتي تبرأ إلا بهذا!
وطريقة السعدي التي اختارها لنفسه هي بيان المقاصد، وتعدية المعاني الإيمانية وتوسيعها، وتفجير نصوص الوحي واستخراج القواعد والفوائد الخفية منها، وله ولعٌ عجيب بالهدايات القرآنية، حتى إنه استنبط من آية الوضوء في سورة المائدة إحدى وخمسين فائدة، ومن قِصَّة الخضر أربعين فائدة، بعضها فوائد فقهية، وبعضها فوائد تربوية، وتجده يستنبط هدايات قد لا تخطر لغيره من أهل العلم، وهذه ثمرة الإقبال التام على آي القرآن.
وإذا تعددت عبارات السلف في التفسير لمعنى واحد فإن للسعدي امتيازًا في ذكر عبارة جامعة لأقوالهم، كل هذا مع حسن التعبير الذي ينتفع به العالم، ولا ينبو عن فهمه طالب العلم، وتسهيل العبارة ورشاقَتها في دقائق المعارف تدلُّ على سعة العلوم وتمام التوفيق.
ولم يكن الشيخ يمرّ على مضائق الإشكالات العلمية قليلة النفع فيحلُّ حبوته، ويفرح بها ويشير إلى كونه يعرفها، بل كان حصيفًا بعيد الغاية يمرّ بكثير من الإشكالات مرورًا عبقريًّا، يقرؤه العالم فيدرك مراميَه، ويطالعه العامي فيزيده هدى.
ولم يكن ذلك الصنيع في العناية التامة بالوحي مقصورًا على كتبه ورسائله، بل كان هذا دأبه حتى في مجالس التدريس في المسجد، قال تلميذه ابن بسام: (أما كلامه على النصوص الكريمة سواء كان في التفسير أو الحديث فأمرٌ عجب، فإنه يستنبط منها من الأحكام والفوائد ما لا يتصوره طالب).
علوم الوسائل:
كان الشيخ قادرًا على الاستطراد في سَرْد مباحث شتى من علوم الآلة، وهي العلوم التي دَرَسها ودرَّسها في الأصول والنحو والبلاغة على طريقة بعضهم، ولكنه آثر تحقيق النفع لا إثارة الدهشة، وكان منطويًا على إيمانٍ عميقٍ بأن علوم الآلة محرِّكات داخلية لا تُرى إلا عند الحاجة، فهي آلةُ إنتاجٍ ضروريةٍ تستيقن بها سلامة المنتج، وليست مقصودةً لذاتها، وأنفع المعارف الشرعية للعامة والخاصة ما كانت علوم الآلة حاضرةً غائبةً فيه، متغلغلةً في تفاصيله سيالةً في تضاعيفه، وهي طريقة السلف الأوائل في العلم والتعليم والفتوى، فلا شك أنَّنا إذا تخطَّينا حلقات التعليم والتدريس لهذه المتون ونحوها فَذِكْرُها للعامة وأمثالهم بلا موجبٍ يبعث على الإعجاب بالمتحدث، لكنه يشوِّش غالبًا على بقيَّة حديثه، ونفعُ القارئ عند السعدي أولى من إثارة إعجابه! وعامَّةُ الموغِلين في الوسائل على حساب المقاصد لا يزاحمون منكب أمثال الشيخ في النفع والتأثير، وإن أثاروا شيئًا من سيلِ الإعجابِ المؤقَّت!
وإشكالية الإغراق في علوم الوسائل على حساب علوم المقاصد موغلة في القِدَم التاريخي، وقد عبر عنها ابن خلدون بقوله: (أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط .. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوًا، وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة)، وقد أمسى هرم الأولويات مقلوبًا على رأسه، فترى طوائف من طلبة العلم في زماننا تتوق نفوسهم للاشتغال الطويل بعلوم الآلة، ثم لا يصِلون إلى علوم المقاصد إلا في خريف الهمّة وانحلال العزيمة فيقنعون منها بالفُتات، فكلامهم في علوم الوسائل مفصَّل، وكلامهم في المقاصد في أحسن أحواله مجمل، فبعدَ طولِ التطواف في الآفاق يَرضون من الغنيمة بالإياب!
الولع بالنفع:
كان نِتاج الشيخ سالِـمًا من الإسهاب في شرح المقدِّمات التي هي أجنبية عن العلم، والتي يتفنَّنُ كثير من الشراح بإطالة الكلام حولها، بل كان -واللهِ- في كلِّ شأنه مولَعًا بالمقاصِد، فهو إذا شرح المتون العلمية لا يخالجك الرَّيب بأنك حيالَ رجلٍ من أهل العلم يستشعر مسؤولية كبرى بأن بين دفَّتي هذه المتون علومًا جمّة وهدايات عظيمة يجب استخلاصها وبثها في الآفاق، وانظر صنيعَه -على سبيل المثال- مع شرح الواسطية وشرح كتاب التوحيد.
وهو إن كتب في التفسير أعرض عن المباحث التي أجملها القرآن، وهو لا يعرض عنها فحسب، وإنما يعلِّم قارئ القرآن أن يعرض عنها أيضًا ليوفِّرَ الجهد العقلي في المباحث المهمة، وذلك نحو قوله في قصة داود عليه السلام وتعيين الذنب الذي صدر منه: (لم يذكره الله لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصَّه الله علينا)، وهذا تنبيه متكرر في تضاعيف تفسيره.
ومن فَرْط عنايته بالمعارف النافعة أنك تجده ميَّالا لجمع القواعد والأصول في العلوم، حتى إنه كتب مرةً في أصول الطب، وبسبب هذه النزعة لدى الشيخ صنَّفَ في الفقه (القواعد والأصول الجامعة)، و(منظومة القواعد) وجمع في التفسير (القواعد الحسان) وغيرها، وهو يعلِّلُ اهتمامه بالقواعد بقوله: (لأن معرفة جوامع الأحكام وفوارقها من أهم العلوم وأكثرها فائدة وأعظمها نفعًا)، ويقول في موضع آخر: (لأنه إذا انفتح للعبد الباب، وتمهدت عنده القاعدة، وتدرب عندها بعدة أمثلة توضحها، وتبين طريقها ومنهجها، لم يحتج إلى زيادة البسط وكثرة التفاصيل)، فإدراكُ القواعد وضبطُها وحسنُ التدربِ والتخريجِ عليها يختصر كثيرًا من الزمان الذي يُنفق في ضبط التفاصيل.
وحينما مرض الشيخ وسافر إلى لبنان للتداوي جاءه ولده برسالة (دع القلق وابدأ الحياة) للكاتب الأمريكي ديل كارنيجي، فقرأها وأعجبته ثم أخذها وأودعها في مكتبة عنيزة، وكتب على منوالها رسالة (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)، وهكذا تجد الولع بالعلم النافع مصاحبًا لهذا الشيخ الموفَّق في كلِّ أحوالِه.
المعارك الصغيرة:
كان الشيخ معرضًا عن بنيّات الطريق، عزوفًا عن المعارك الصغيرة، يتكلم حين يكون للكلام نفع وإفادة، ويلتحف الصمت حين يغدو الصمت بيانًا وزيادة، كتب مرةً تفصيلا عن حكم تكفير الفرق الإسلامية المعتزلة والأشاعرة والماتريدية مبيِّنًا منهج أهل السنة في ذلك، فانتفخت أوداج أحد طلبة العلم، فكتب ردًّا على الشيخ جاوز فيه العلمَ إلى التبكيت، والحجةَ إلى التجريح، فلم يردَّ عليه الشيخ صاعَ صاعين، فليس هذا من شأن الأكابر، وإنما ردّ عليه الشيخ مقتصرًا على بيان الحجة والاستدلال، فكتب ذلك الرجل ردًا أغلظ من رده الأول، فصرف الشيخ الحديث معه لعدمِ الفائدة، وأشاد بغيرته الدينية، وكتب لتلميذه حاكيًا هذه الواقعة اللطيفة، وما أشبه الليلة بالبارِحة: (من مدة وصلني كتاب فلان، ينكر فيه ما ذكرته في باب حكم المرتد وتفصيلنا في أهل البدع ذلك التفصيل، وإنكاره فيه شدة عظيمة، فرددت كلامه بلطف، وأحلته بهذا التفصيل على كلام ابن تيمية وابن القيم، ولم أناقشه في شدته ولا حاسبته على ألفاظه غير اللائقة، لأني ظهر لي أن البحث والتمادي معه ما لَه ثمرة ولا نتيجة، ثم جاءني كتابٌ أشد من الأول، ويزعم أن هذا التفصيل مخالفٌ لمذهب الأمة، وأنه باطل متناقضٌ، وأننا أتينا بمنكراتٍ وطامَّات .. كلامٌ يعجب الإنسان كيف يصدر ممن ينتسب للعلم من دون أن يعرف ما عند صاحبه، ومن دون أن نقابله، لهذا ما أحببت التمادي معه في البحث، لأنه إن شاء الله ليس كله هوى، وإنما حمله على ذلك ما انعقد في فكره من تكفير جميع الجهمية والمعتزلة من غير فرقٍ بين المعاندِ وغيره، ولم يعرف كيف الطريق إلى إنكار ما اعتقده منكَرًا، فجاء بهذه الطريقة .. نرجو الله أن يوفق الجميع لكل خير)، فتكلم بالبيان العلمي، وسكَتَ عن التجريح الشخصي، ثم فسَّر سببَ إجحافِ المخالِف، وحمله على أحسن المحامِل، وهذا شأن الكبار!
للحديث بقية..
بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب