من أمارات العلم النافع حضور العالم ومواكبته لسؤالاتِ عصره، وأنفع المشاريع العلمية ما كانت تلبية لحاجةٍ قائِمة، فحينما راجَت أفكار إلحادية في القرن الماضي ونَفَقَت في بعض البلدان لم يكن من المتوقَّع من شخصٍ دائب النشاط موفور العلم غزير النفع مضطلعٍ بمسؤولياته المعرفية أن يظل نادِبًا في صومعة العلم، منعزلا في أبراج الفِكر، يشكو قلمه من فَرط الجفاف، بل سوَّى الشيخ النافع جلستَه وامتشق قلمَه وكتب: (الأدلة والبراهين في إبطال أصول الملحدين)، و(تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله)، و(انتصار الحق)، وفي هذه الكتب لم يغب عنصر البراعة والإبداع مع التزام المنهج العلمي، ومن جوانب الإبداع في هذه الرسائل أنه عقد فصلا لطيفًا عن محاسن الدين الإسلامي وذلك في مطلع ردِّه على القصيمي، قال فيه: (أحببت أن أشير إشارةً لطيفة قبل إبطال قولِ هذا الكتاب إلى بعض محاسن هذا الدين، وأنه لا سبيل لأحدٍ من الخلق أن يعطّلَ شيئا من أصوله وقواعده وأسسه، وأن هذا الدين العظيم تزول السماوات والأرض والجبال وأصولُه راسيات، وقواعده ثابتات..)، وهذا المدخل ما هو إلا إشارة ذكيةٌ وتوطئةٌ حسنة قبل الدخول في تفاصيل الدفاع المحض، فالدفاع المحض ضعف، ثم هو يهزّ ثقة القارئ خاليَ الذهن، فكان من اللطيف الدخول عبر نافذة محاسِن الدين الإسلامي.
وهذه الإشارة السعدية من جملة الفتوح العلمية التي لا يمكن تحصيلها بالعِلمِ وحده، وإنما هي إرثُ الفرَح بهذا الدِّين العظيم وثمرة الاعتزاز بشرائعه، وعلى كل حال فهذا الإحساس بالفرح فياض غامر في سائر كتبه، فأنت تشعر دومًا أن هذا الشيخ النافع ترفرف في قلبه فرحةٌ عارمةٌ بهذا الدين، كما قال تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، وفضل الله هو القرآن، ورحمته الدين والإيمان!
وأما رسالة (انتصار الحق) فلم يكتبها الشيخ بصورة تقليدية، وإنما سَبَكها في شكل مناظرة لطيفة بين رجلين يطلبان العلم الشرعي، أحدهما تسرَّبتْ إليه بعض الشبهات الإلحادية، والثاني كان سالـمًا من هذا البلاء، ثم يسوق الشيخ الحجج في هيئة مناظرة بين رجلين، وهكذا فالشيخ يتفنن في أنماط الكتابة، وينوع طرق العرض في سبيل إيصال أنوار الوحي إلى الناس.
ولم يكتفِ الشيخ بذلك المجهود المعرفي النافع، بل كان يبعث إلى بعض العلماء في الأمصار البعيدة ملتمِسًا الكتابة في هذه الأبواب.
الشفقة بالمتلقي:
ثمة تلازم بين الرحمة بالمتلقي وبين مدى نفعه وإمكانية التأثير عليه، وإذا كملت الشفقة في قلب العالم فإنه يهتدي لأقرب الوسائل للنفع والإفادة، والعلم الشرعي في جوهرِه رحمةٌ للعالمين، فهذه الرأفة ليست مجرد سلوكٍ كَماليّ بل هي بعيدة الأثر عميقة الغور مؤثرة أحيانًا حتى في حرَكة التاريخ!
فقد ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله موقفًا عجيبًا يحكي شيئًا من شفقة شيخِه وكمال أخلاقه، وملخَّص الحكاية أن ابن عثيمين انقطع عن دروس شيخه وعن العلم عمومًا زهاء خمس سنين، ثم إنه بعد ذلك أرادَ الله به خيرًا ودخلَ إلى الجامع وحضر الدرس لأول مرة بعد انقطاع سنوات، يقول: فما عاتبني ولا نهرني لانقطاعي، ولم يقل: لمَ غبت؟ أو لمَ تركتَ العلم؟ أو نحو ذلك مما أثّر في نفسي، وحبب إليَّ الشيخ السعدي، فرفع ذلك السلوك من الشيخ همتي، وتوجهت بكل جوارحي للعلم، فزاحمتُ الكبار وثنيت الركب بين يديه، وحصَّلتُ من علمِه وأدبِه ما فتح الله عليَّ به، فحزتُ رضاه وإعجابه، فقربني وخصني بدروس لي خاصة، أو مع خاصة تلاميذه.
فانظر كيف كان حسن الخلق ليس مجرد كمالٍ يحصله الإنسان لنيل الثواب، وإنما هو مع ذلك أداة مهمة من أدوات صناعة الرجال وتحقيق التأثير الإيجابي الواسع في المجتمعات، فالمحصِّلة النهائية من هذا الموقف العابر تخريج تلميذٍ يكون لاحقًا عالمًا كبيرًا ترتوي من علومِه وفقهه نفوس كثيرة في أصقاع الأرض!
ثم إنك لا تملك حينما تقرأ هذا الموقف إلا أن تستحضر ما ذكره الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ قال السعدي: إذا جاءك المؤمنون فحَيِّهم ورحِّب بهم ولَقِّهم منك تحية وسلاما، وبشِّرهم بما ينشط عزائمهم وهمَمَهم من رحمة الله وسَعة جوده وإحسانه، وحُثَّهم على كل سَبَبٍ وطريقٍ يوصل لذلك. فلم يكن هذا التفسير مجرّد أحرفٍ عابرةٍ، بل كانت سلوكًا يتمثَّله الشيخ، ولذلك كلِّه بقيت مواقفه النبيلة وأخلاقه الكريمة خالدةً يتناقلها الرواة عن الرواة إلى هذا اليوم.
حرق المراحل:
يحذر الشيخُ المعلِّمين من مسالك حرق المراحل، وتخطِّي المسائل العلمية قبل استقرارها في الذِّهن، فإن هذا مؤذٍ لفهم الطالب، فيقول: (ينبغي سلوك الطريق النافع عند البحث تعلمًا وتعليمًا، فإذا شرع المعلم في مسألةٍ وضحها وأوصلها إلى أفهام المتعلمين بكل ما يقدر عليه من التعبير وضرب الأمثال والتصوير والتحرير، ثم لا ينتقل منها إلى غيرها قبل تحققها وتفهيمها للمتعلمين، ولا يدع المتعلمين يخرجون من الموضوع الذي لم يتم تقريره إلى موضوع آخر حتى يحكموه ويفهموه، فإن الخروج من الموضوع إلى غيره قبل الانتهاء منه يشوش الذهن، ويحرم الفائدة، ويخلط المسائل بعضها ببعض)، من فاتَه حضور دروس السعدي ثم قرأ هذا النص الفائض بمعاني الرأفة والشفقة، فإنه لا يملك أن يمنع ذهنه من السياحة في آفاق الزمن وتخيّل المسلك الذي كان عليه الشيخ في النفع والتدريس، وكما سبق لم تكن هذه مجرد تنظيرات بارِدة يتزين بها الشيخ أو يكتبها من طرَف القلَم، وإنما كان سلوكًا عمليًّا لفت الأنظار إليه من شتى الأقطار، قال تلميذه ابن بسام عن طريقة شيخه الفذَّة في التعليم: (كان من طريقة تدريسه أنه يجمع الطلبة على كتابٍ واحد، وبعد الفراغ يطلب من ثلاثة منهم إعادة ما فهموه من شرحه الذي ألقاه عليهم، ليختبر فهمهم وحفظهم، كما كان يسألهم عما مضى لئلا ينسوه).
وإذا كان حال كثير من أهل العلم أنهم يدرِّسون أحيانًا ثم ينقطعون، فإن البسام يروي حال الشيخ السعدي مع النفع والتعليم بأنه (صرف أوقاتَه كلَّها للتعليم والإفادة والتوجيه والإرشاد، فلا يصرِفه عن حِلَقِ الذِّكر ومجالس الدَّرس صارفٌ، ولا يردُّه عنها رادّ، إلا ما يتخلله من الفترات الضرورية، كما قَدِمَ عليه الطلاب من البلاد المجاورة لبلده، لما اشتهر به من سعة العلم، وحسن الإفادة، وكريم الخلق، وحسن العشرة)، فانظر كيف كان حسن الإفادة وتمام النفع باعثًا لهمم الطلاب لأن يتوافدوا عليه من البلاد المجاورة.
ولم تقتصر شفقتُه على الطلاب الذين خالطوه، وإنما امتدَّت لتشمل الطلاب في الآفاق الزمنية البعيدة، فقد كتبَ الشيخ رسالةً صغيرةً تسيل عذوبةً في (آداب المعلمين والمتعلمين)، وهي تشتمل على معانٍ حسنة لا يوفَّق لاستحضارها إلا صاحب نفس شفافة وروح عذبة وتجربة ممتدة، وأكثر ما يلفت الانتباه في طيَّات هذه الرسالة عظيم شفقة الشيخ بالمتعلِّمين، وهذا يفسِّر كثيرًا من مسالكه العمليَّة في البحث والكتابة والتدريس والتأثير.
فهو يدعو المعلِّم بأن ينصح (للمتعلم بكل ما يقدر عليه من التعليم، والصبر على عدمِ إدراكه، وعلى عدمِ أدبه وجفائه .. لأن المتعلم له حق على المعلم، حيث أقبل على العلم، وحيث توجه للمعلم دون غيره، وحيث كان ما يحمله من العلم هو عين بضاعة المعلم، يحفظها وينميها ويطلب بها المكاسب الرابحة، فهو الولد الحقيقي للمعلم الوارث له)، وتتسع شفقة الشيخ حتى في اختيار الكتاب، فيقول بأن على المعلِّم أن يختار الكتاب الأنفع للطالب، وصدق الشيخ في هذه النصيحة، فبعض المعلمين إذا أراد أن يقرأ كتابًا لنفسه أقرأه لطلابه بغضِّ النظر عن مناسبة هذا الكتاب لحالهم، فهو في الحقيقة يراعي مصلحة نفسه وإن أضرَّ بالطلاب، ولذلك يوجِّه الشيخ السعدي الخطاب للمعلم بأن عليه (أن ينظر إلى ذهن المتعلم وقوة استعداده أو ضعفه، فلا يدعه يشتغل بكتابٍ لا يناسب حاله، فإن هذا من عدم النصح).
تسلسل النفع:
في أوائل السبعينات الهجرية أصيب الشيخ بمرض ضغط الدم وتصلُّب الشرايين، فاضطُرَّ للسفر إلى لبنان للتداوي، فنصحه الأطباء بلزوم الراحة وقلة التفكير وترك الإجهاد البدني والذهني، وهذه مطالب الراحة عسيرةٌ على من أدْمن النشاط ونفع الناس، فحينما عاد إلى بلدتِه عنيزة آنسَ من نفسه شيئًا من العافية تسري في أطرافِه، فرجع إلى ما كان عليه من التعليم والبحث والنفع، فبعد مدة رجع إليه المرض بأشدَّ من السابق، وقدّر الله أن تنسل روح الشيخ من وِثاقها المادّي، وأن تصعد نفسه الطيبة محلّقة في أجوازِ الفضاء إلى باريها سنة (1376هـ).
وعامَّة جيلِنا من طلابِ العلم هم من طبقة تلاميذ تلاميذ تلاميذ الشيخ السعدي رحمه الله، وما زالت معارفه النافعة مع توالي هذه الطبقات حيَّةً حاضرةً بيننا، لا سيما ما كتبه الشيخ على وجه الخصوص في الفقه والقواعد والتفسير، فإنها اليوم لا تكاد تخلو منها مكتبة، وهكذا العالم النافع كالشمس يغيب بدنه وتشرق معارفه، تنقطع أنفاسه ويأذن الله له بحياةٍ أخرى تربو على حياةِ الأحياء وتفيض عليهم!
وهذه الحال تذكرني بالنصّ الذي كتبه الشيخ في كتابه العذب: (بهجة قلوب الأبرار)، فإنه في أثناء شرح الحديث الشهير الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فقال الشيخ مفسِّرًا العِلمَ الذي يُنتفع به بأنه: (العلم الذي علَّمَه الطلبة المستعدِّين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة، وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة أو كتابة، فإن أجرَه جار عليه، فكم مِّن علماءٍ هداةٍ ماتوا من مئات من السنين وكتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم، وذلك فضل الله)، والشيخ نحسبه من هؤلاء الهداة الذين تسلسل خيرهم ونفعهم في الأمة، وما أظنُّ -وربي الأكرم- إلا أن كتابَه في التفسير على وجه الخصوص سيبقى خالدًا مئاتِ السنين!
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب