غربةُ الكتابِ

بينَ الفينةِ والأخرى أقومُ بتغذيةِ مكتبتي ببعضِ الكتبِ التي تفتقدها، فأشتري ما أجده مما أرغبُ في قراءتهِ بينَ رفوفِ المكتبات وفي دورِ النشرِ ،والكتبُ التي لم أجدها أدونُ عناوينها في قائمةٍ خاصةٍ حتى إذا وجدتها أشتريتها، ولكن مع مرورِ الأيامِ وتعاقبِ الليلِ والنهارِ وجدت أن هذه القائمةَ بدأتْ تطولُ وبدأتْ تتزاحمُ فيها عناوين الكتبِ التي لم أجدها، بالرغمِ من بحثي عنها هنا وهناكَ وأرسلتُ في طلبها الرسلَ والقوافلَ، وضربتُ أكبادَ الإبلِ بحثًا وتنقيبًا عنها ولكن دونما فائدةٍ !!

مع أنَّ غالبها كتبٌ مشتهرةٌ، ولها صيتٌ ذائعٌ وكعبٌ عالٍ في عالمِ الكتبِ، فبدأتُ أبحثُ عن أسبابِ شُحِّ هذه الكتبِ في دكاكينِ الوراقينَ، ولماذا ليس لها وجودٌ في المكتباتِ،وحتى في بعضِ المواقعِ التي تبيعُ الكتبَ على الشبكةِ العنكبوتيةِ، وأقصدُ هنا الكتبَ الورقيةَ!
وبعدَ البحثِ والتقصي والتفتيشِ والتقليبِ وجدتُ أنَّ الأسبابَ كثيرةٌ، ولكنَّ أبرزها ثلاثةٌ :

الأولُ : زُهدُ الناسِ في الكتبِ القديمةِ، وخاصةً اُمَّاتُ* الكتبِ، بسببِ ضعفِ الحصيلةِ والمعجمِ اللغوي عندَ كثير ٍمن القُراء اليومَ، فالذي يقرأُ تلكَ الكتبَ يصعبُ عليه فَهمُ معاني كثيرٍ من الكلماتِ والأفكارِ فيها، لأنَّه عوَّدَ نفسه على قراءةِ الكتيباتِ والنصوصِ الحديثةِ ذات اللغةِ السهلةِ !

الثاني : كثيرٌ من دورِ النشرِ في كثيرٍ من البلادِ العربيةِ أوصدتْ أبوابها بالأقفالِ وكبلتها بالسلاسلِ إلى أجلٍ غير معلومٍ، أضفْ إلى ذلك لا يوجدُ اليومَ منْ يفكرُ في إنشاءِ دارِ نشرٍ جديدةٍ، لعدمِ الفائدةِ وقلةِ العائدِ المادي!

الثالثُ: وهو الأهمُ والأبرزُ وبسببه ضَعُفَ وضعُ الكُتبِ الورقيةِ والكُتبِ بشكلٍ عامٍ وفي جملتها الكُتبُ الالكترونية، ألا وهو عزوفُ الناسِ عن القراءةِ بشكلٍ كبيرٍ وملحوظٍ، فمن النادرِ أن تسمعَ عنْ شخصٍ قرأَ في شهرٍ كتابين أو ثلاثةَ، بل ربما تمرُّ عليه الشهورُ الطوالُ وتمرُ عليه سنونٌ عجافٌ لم يقرأْ فيها كتابًا واحدًا كاملًا !

هذه الأسبابُ الثلاثةُ هي في وجهةِ نظري أهمُ الأسبابِ التي أدتْ إلى اندثارِ كثيرٍ من الكُتبِ الورقيةِ من السوقِ فلم يعدْ لها وجودٌ على رفوفِ المكتباتِ ،نعم هناكَ أسبابٌ أخرى ثانويةٌ مثلُ وجودِ الكتبِ الالكترونية كذلك مواقعُ التواصلِ التي اكتفى كثيرٌ من الناسِ بها واستغنى بسببها عن قراءةِ الكتبِ، وهذه معضلةٌ أخرى، ودُويهيةٌ تصفرُّ منها الأناملُ، فأصبحَ بعضُ القُراءِ يبحثُ عن القشورِ في بضعِ سطورٍ تَبُلُّ صداه، وعزفَ عن جواهرَ مكنونةٍ في بطونِ الكتبِ لا يعرفُ قيمتها إلا من غاصَ في أعماقها، واكتشفَ أهميتها وقيمتها، فلن تغني مواقعُ التواصلِ وما فيها من غثٍ وسمينٍ عن قراءةِ كتابٍ، ربما أمضى مؤلفه جُلَّ حياته في جمعهِ وكتابتهِ وتنقيحهِ!

إنَّ الكتابَ الورقي باتَ يشكو غربةً ووحشةً في هذه الأزمنةِ المتأخرةِ، وربما نسمعُ نعيهُ قريبًا بعدَ أن صارتْ مواقعُ التواصلِ هي خير ُجليسٍ في الزمانِ !

 

د.محمد الشيخي
—————————-
*أُمَّات: لغةٌ في أمهات.

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *