لماذا نشتكي من تخلخل وتذبذب في مجتمعاتنا وأسرنا ونحن قد أنزل الله علينا كتاباً يقول فيه : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) ونحن أضعف من الجبال … ووصفه بانه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) ؟!
لماذا نشتكي من رعونة أخلاقنا وعدم صبرنا ونحن لدينا نوارن يقول الرسول الكريم عنهما ( لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعده أبدا كتاب الله وسنتي )…..
ولا يهمنا قول بعض المنهزمين المتشبثين بما ليس لهم والمتمسحين بأعتاب أسيادهم ومن المنتمين إلى تيارات وأهواء فاسدة ، من الذين يرون إن التمسك بهذا الكتاب وما فيه من قيم إنسانية نبيلة إنما هو من قبيل البَلادة ويدعو إلى التأخر والتقهقر فهؤلاء قد حادوا كثيراً عن الجادة والطريق المستقيم وجانبهم التوفيق في قولهم ، نسأل الله لنا ولهم الهداية والصواب .
إن أي أمة أو شعب أو مجتمع لا يمكن بحال من الأحوال أن يرتقي إلى مصاف الأمم المتقدمة إلا باتباع أسس وأساليب غاية في الدقة وتزن نفسها بميزان أدق من ميزان الذهب الإبريز ، وإذا ما أردت أن تربي جيلاً يتسلم من بعدها القيادة والريادة ، فهناك خطوات لتربية هذا الجيل لكي يُعتمد عليه .. فإن أول ما يجب أن تتخذه لترتقي بالمجتمعات أن تبدأ هذه الخطوات من البيت فالطفل منذ أن يولد يجب أن يغرس فيه المحيطون به من أم وأب وإخوة أكبر منه سناً بزرة الثقة بالنفس وعلو الهمة ولا يأتي ذلك إلا إذا كان البيت الحاضن له بيت علم وفضيلة.
والمتصفح لكتب التاريخ والسير سوف يجد أن العرب الأقدمين كانوا إذا ولد لهم مولود وتفرسوا فيه علامات السيادة والقيادة والريادة قاموا بإرساله إلى البادية لينشأ نشأة صحية أولاً ثم ليتعلم الآداب ويسلمونه إلى مؤدب يتعلم منه طلاقة اللسان والخطابة والفروسية والثقة بالنفس والرجولة ، وأكبر دليل على ذلك أبناء الخلفاء الذين فتحوا الدنيا وقادوا الجيوش ووسعوا رقاع ممالكهم ..
وفي عصرنا الحديث وما حبانا الله فيه من نعم كثيرة فإن عبء التربية الصحيحة يقع على عاتق الأسرة ، وما وقعت فيه هذه الأسر والمجتمعات من تدهور في الأخلاق إلا عندما سُلمت مقاليد تربية الأبناء إلى الخادمات واعتزلت الأم والتهت بما التهت به عن قيادة تلك المملكة التي حباها الله إياها ، وأخذن ربات البيوت في التسابق لنيل كماليات وسفاسف الأمور فضاع الأبناء وتعلموا سلوكيات لا تمت إلى مجتمعاتنا بصلة واختلط الحابل بالنابل فضاعت القيم والأخلاق وأخذت التربية منحى يعلم الله أنه لا يأتي بخير أبداً ..
وما هذه الشكاوى التي نسمعها كل يوم إلا نتيجة تخلي الربان عن قيادة سفينته وتركها لمن لا يجيد فن القيادة فغرقت السفينة بمن فيها وما فيها …
كلنا يعلم أن الأبناء أمانة في أعناق القيمين عليهم وهما الأبوين ، وتربية الأبناء مسؤولية جسيمة لا يقدرها حق قدرها ولا يؤتاها إلا من اجتهد وطلب العون من الله وألح في الطلب بصدق نية …
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين التربية قديماً وحديثاً فلنعود بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء حيث تلك الحقبة الزاهرة والزاخرة بكل معاني النبل والأخلاق الكريمة الفاضلة ، و على الرغم ما كان عليه الحال سابقاً من قلة ذات اليد إلا أن تربية الأبناء كانت في أرقى معانيها فأخرجت لنا تلك الحقبة جيلاً قد تحلى بالخلق الكريم ، مثل تقدير وتوقير الكبير والنجدة والتسامح وعلو الهمة والتسابق لتقديم العون لكل من طلب العون دون منة ودون طلب أجر إلا من الله وصدقوا الله فصدقهم …
واليوم انظروا إلى حالنا وأحوالنا كيف تبدلت وسيطرت على حياتنا الأثرة وحب الذات والفخر الكاذب ووهم السخاء والتفاخر والسباق المحموم إلى كل ما لا طائل منه لدرجة السفه والحماقة .. تبذير المال كتبذير الأخلاق بغية الثناء وطلب السمعة فقط وأنا هنا لا أعمم أبداً ؛ ولكن ألستم معي أن هذه الأمراض والسلوكيات موجودة في مجتمعاتنا ؟؟ ..
نحن لا نحاول أن نؤسس مدينة فاضلة كمدينة أفلاطون وقد حاول أفلاطون أن يوجد مدينته الفاضلة فأعوزته واستعصت عليه لأنه أراد أن يوجدها بعيداً عن الدين ، ونحن لدينا كل المواد التي تبنى بها هذه المدينة ، بل نستطيع أن نبني مدينة أرقى من مدينة أفلاطون وأشد ، ولا أعني الماديات فالبناء المادي إن لم يؤسس بالأخلاق والقيم النبيلة فسرعان ما تسقط فوق رؤوس ساكنيها …
وصدق الشاعر الذي قال : “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبو” .
نعم نحن في أمس الحاجة إلى مراجعة كثير من سلوكيات مجتمعاتنا ، يجب أن نؤسس بنياننا خير تأسيس ولا يضيرنا كما أسلفت صيحات الإنهزاميين الذين آثروا الدعة والسكون والركون إلى حياة شبيهة بالموت ..
القدوة الصالحة هي ما يجب أن نغرسه في نفوس أبنائنا وبناتنا لنهيئهم لقيادة مجتمعاتنا التي تنشد الطمأنينة والسلام ..
ثم بعد ذلك يأتي في المرتبة الثانية دور المدرسة ودور العلم ، فالمعلم تقع عليه مسؤولية جسيمة ويجب على المعلم أن لا يكتفي بإلقاء الدرس ثم يذهب إلى بيته وفي خلده أنه أعطى ما عليه وحلل راتبه كما يقال فهذه ليست رسالة المدرس .. و لو علم المدرسون بما أنيطت لهم من مهام ثقيلة فإن رسالة المعلم رسالة جداً عظيمة ، وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي : “قم للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا” ، فهل فَقِه المعلم هذا الدور ؟؟ .
كم هو أليم على النفس أن ترى أفراد المجتمع كل يعمل بمفرده ، فمتى تبنى المجتمعات البناء السليم إن كان هذا هو الحال ؟!
يجب التكاتف والتعاضد و ترك الأثرة والآنية وحب الذات جانباً ولنعلم أن آباءنا قد ضحوا براحتهم وهنائهم في سبيل تربيتنا التربية الصحيحة السليمة ، وعلينا نحن أن نضحي ببعض راحتنا وأن نترك اللهو والفرش الوثيرة وليتحمل كل منا جزء من مسؤوليته تجاه هذا المجتمع الذي يضمنا وتتشكل من تكاتفه وتعاضده هذه الأمة التي قال الله عنها إنها (خير أمة أخرجت للناس ) ، ولنعلم أننا سوف نُسْأَل عما قدمنا ، وسوف تصل أخبارنا إلى الأجيال التي تلينا فلننظر كيف يجب أن يكون رأي الأجيال القادمة فينا ، فالتاريخ سوف يكتب ما قدمنا والتاريخ ناقد حصيف .
اللهم أعنا وبارك في جهودنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وصل الله وسلم على معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب