🖋️ حينما طُلِبَ مني الكتابة الدورية المستمرة في هذه النشرة الدورية وافقت بعد تردّد، فلم أكن أعلم أن وراء هذه الموافقة موعدًا خاصًّا مع تجربة أثيرة شخصية، فالكتابة وأعني بها على وجه الخصوص (الكتابة المستمرة) تشتمل على مكاسب جمّة، فمن خلال تجربةٍ قاصِرة أستطيع القول بأن عادة الكتابة حينما نفسح لها وَقتًا أصليًّا ثابتًا تغدو مع توالي الأيام نَـمَطًا راقيًا من أنماطِ التفكير والتأمل، وهي كثيرًا ما تكون مرآةً صادقةً لحالتنا النفسية والروحية، كما أنَّها صدى مباشرٌ لما تعمله المطالعة في الكتب والحياة في أعماقِ نفوسنا، ثم هي تضع التغيرات والتطورات التي تعتمل بهدوء داخل عقولنا تحت الضوء وفي معامل الرصد، ثم هي فوق ذلك تكسر الرَّتابة وتبدِّد الملل الذي يعصف بنا أحيانًا من جرَّاء القراءة المجرّدة.
ولا تقف المكاسب عند هذا الحدّ على سعته، بل إننا حينما نكسر الوحشة بيننا وبين القلم أو الكيبورد، ثم تتحول الكتابة إلى عادة ثابتة على طريقة بعض علمائنا الأفذاذ من المتقدمين والمتأخرين سنشعر أن الكتابة ترتِّب اختياراتنا المعرفية شيئًا فشيئًا، وتساهم مساهمة فاعلة في الحدّ من دَوّامة الفوضى، فالقلم ينظِّم مطالعاتنا الحرَّة ويصبها في مسارٍ ملائِم للموازنة بين المدخلات والمخرجات.
وأدنى هِباتها -إذا أعطيت حقَّها الكافي- أنها تزيد في إمكانياتنا الذهنية في الانتباه للنظائر والأشباه في كلِّ مجال، وهذا جوهر النظريات والأفكار ومادّتها الأولية.
الشرط العالي:
ثمَّ علينا أن نزيل العراقيل التي تحول بيننا وبين عادة الكتابة المستمرة، ومن أهمِّها (تجافي الشرط العالي)، فالشرط العالي في الكتابة يجفِّف منابع التعبير، ويخنق كثيرًا من الأفكار الملهمة، وما قلَّبْتُ بيديَّ نتاجَ عبقريٍّ إلا وجدتُّ صفحاته الملهِمة غارِقة في أمواجٍ عاتية من الصفحات المتوسطة فما دونها، وهذه الفكرة أعني فكرة التفاوت الهائل في نتاج العباقرة فضلا عمَّن دونهم هي فكرةٌ جوهرية ملهِمَة في استمطارِ الأفكار المضيئة، فكمْ كان لتطلُّب الكمال في كل حرفٍ من أثر بالغ على جذب النتاج الكتابي، مما ترك أثرًا واضحًا على جفافِ أقلامنا، وحالَ بينها وبين فرص الدخول في نفق التأمل الهادئ.
وقد رأيتُ مرةً الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد يُسأل عن علاقته بأستاذِه الشاعر الأكبر الجواهري، فذكر أنه انتفع بهذه الوصية العظيمة من شيخه: لا تكترث بالضعف في بعض النتاج الشعري! وكان عبدالرزاق كثيرَ الحفاوة بهذه النصيحة الجواهرية، وقال بأنها لا تأتي إلا من مثل الجواهري! وعندي أنها حجر الزاوية في دوامِ الاستمرار وإتاحةِ الفرصة الكافية للنتاج الجيِّد!
استعباد لحظات الإلهام:
وهناك فكرة أخرى لا تقلّ أهمية عن هذه الفكرة، وهي فكرة التخلص من (استعباد لحظات الإلهام) وذلك بتثبيتِ موعدِ الكتابة اليومي، فلا ينبغي أن تظلَّ أقلامنا ترسف في معتقلاتها بانتظار لحظات الإلهام التي كثيرًا ما تكون محدودة الزمن ومجهولة البواعث، وإنما ينبغي أن يكون فعلُ الكتابة سلوكًا مستمرًّا بغضّ النظر عن إقبال لحظات الإلهام من عدمِها، بل إني أرى أن أعظم بواعث الإلهام وجود القلم في حالةِ تأهُّبٍ مستمرّ!
ولذلك فإني رأيت الروائيَّ المصريَّ الأشهر يُسأل: كيف استطاع أن يثبِّت ساعات الكتابة اليومية مع كونِ الإلهام الأدبي يحضر في أوقات غير ثابتة؟ أجاب بما معناه بأني حين جعلت موعد الكتابة ثابتًا صار الإلهام يأتي سلِسًا في موعد الكتابة .. فالاعتياد يصنع الإلهام! وهذا العامل يفسِّر شيئًا يسيرًا من نتاج أفذاذِ أهلِ العلم!
وفي هذا السبيل كان الشيخ محمود شاكر يقول: (أتقدم إليك ألا تدع الكتابة ليلةً واحدة، طالبًا الإبانة عن نفسك على صورة من الصور، فإن هذا خليقٌ أن يشحذ ما كلَّ من بيانك، وأن يصقلَ ما أخذه الصدأُ من نفسك، وأن يحيي ما هَمَدَ من نار همتك، فافعل غير متطلبٍ عن غايتك عذرًا)، وأنا ألتمس منك -أيها الموفَّق- نحو ما التمَسه أبو فهر، فمنذ هذه الليلة اجعل القلمَ أنيسَك، والمترجمَ الصادق عما يعتمل في قلبِك، واكتب ما يعنّ لك من أفكارٍ وتأملاتٍ، لعلّ في طيات الغيب فتوحًا علميَّةً من عطايا ربِّك الأكرمِ الذي علّم بالقلم!
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب