🖋️ الإنسان محدود القدرات، محكوم بمؤثرات شتى، لا يوغِل في بابٍ من الأبواب عِلميًّا كان أو عمليًّا إلا على حسابِ أبوابٍ أخرى، شاء ذلك أو أبى، فهو حين يختار الغوص في الأعماق في هذه الناحية، قد اختارَ ضِمنًا ألا يغوص في الناحية الأخرى المقابلةِ لها، وإذا قرَّرَ الذهابَ في جهة اليمين فمن لوازم ذلك الاختيار ألا يكون في جِهة الشمال، وقد يتفطَّن الإنسان للأشياء التي قصد التوجه إليها وأرادَ الإيغال فيها، لكنه لا يتفطَّن للأشياء الكثيرة التي تركها في مقابل ذلك القصد، فكل خطوةٍ يخطوها البشر في هذه الحياة يرون أنها تقربهم إلى مقصودهم تتباعد بهم في الوقت نفسه عن مقاصد أخرى، وكل اختيار إنساني فهو مركَّب من هدف مقصودٍ وأهدافٍ أخرى متروكة، مما يتطلب استهداءً كبيرًا ووعيًا واسعًا بما يختاره الإنسان في سائرِ شؤونه الدِّينية والدنيوية!
وليس بالضرورة أن يكون الاختيار المقصود كمالا في مقابل نقص، أو هدى في مقابل ضلالة، وإنما اختيار الكمال يفوِّت أضدادَه من النقص ويفوّت أيضًا في الوقتِ نفسه كمالاتٍ أخرى، كالإيغال في العلم في مقابل التقصير في العمل، والتعمق في علمٍ من العلوم في مقابل التقصير في علوم أخرى.
فعلى سبيل المثال مِن طلاب العلم مَن توسَّع في جمع الطرق ودراسة الأسانيد وتتبُّع العلل للأحاديث الصحيحة وغيرها، وهذا اختيار حسنٌ، ولكنه تضمَّنَ عند بعضِهم تركًا لدراسة الفِقه، وهذه القصة متكررة منذ فجر التاريخ، فابن الجوزي يحكي عن بعض الأكابر من أئمة المحدِّثين أنه لما تشاغل بجمع الطرق فاته كثيرٌ من الفِقه، ولذلك قال في موضعٍ حاكيًا قصة الاختيار والترك: (اعلم أنه لو اتسع العمر؛ لم أمنع من الإيغال في كلِّ علمٍ إلى منتهاه، غير أن العمر قصير، والعلمَ كثير)، فالاتساع هنا يورث التضييق هناك حَتمًا.
ومنهم من يصرف سنوات عمره في جمع القيود والضوابط من الشروح والحواشي الفقهية، وهذا اختيار نافع في تحريرِ المذاهب، ولكنه تضمَّن عند بعضهم تركًا لدراسة النصوص الشرعية وشبهَ إعراضٍ تامٍّ عنها، وهكذا فالتوسُّع في أي بابٍ يحمل في طيَّاته التضييق في أبواب أخرى، ولا بأس أن يفعل الإنسان ذلك ويتخصص في بعض الجزئيات المعرفية إذا كان واعِيًا بمقدار ما يفوتُه بسببِ اختياره، فيكون واعيًا بما اختاره وبـما تركه على حدٍّ سواء، لذلك كلِّه ما زلت معجبًا بالعبارة الأثريَّة المنسوبة إلى معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: (ما أسرفَ الإنسان في شيء إلا ووراءه حقٌّ مضيِّع)، فطالما كان الاستكثار على حساب الضبط، والتفنن ذريعة لفواتِ التحرير، وكثرة الكتب مَشغلة عن التحصيل، وطلب العلوم مع التقصير في طلب المعاش، وهذه حقائق غالِبة على أكثر الخلق، ولها استثناءات عزيزة في مدونة التاريخ.
انطفاء موهبة:
واختيارات الإنسان ربما أثّرت على ملكاته ومواهبه أثرًا سلبيًّا أو إيجابيًّا، ومما يحكى في هذا الصَّدد ما ذكره ابن خلدون في تاريخه عن تجربته الشخصية اللطيفة مع ملكة كتابةِ الشِّعر، وأن هذه الملكة تضاءَلتْ بسبب انهماكِهِ في حفظ المنظومات العلمية في الفنون، فيقول: ذاكرت يومًا صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصّدرَ المقدَّم في الشّعر والكتابة، فقلت له: أجِدُ استصعابًا عليّ في نظمِ الشّعر متى رُمته مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلا، وإنّما أُتيتُ -والله أعلم بحقيقة الحال- من قِبَل ما حصل في حفظي من الأشعار العلميّة والقوانين التّألفيّة، فإنّي حفظتُ قصيدتَي الشاطبيّ الكبرى والصّغرى في القراءات وفي الرسم واستظهرتُهُما، وتدارستُ كتابَيْ ابن الحاجب في الفقه والأصول، وجمل الخونجيّ في المنطق، وبعضَ كتاب التّسهيل وكثيرًا من قوانين التّعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك وخدش وجه الملكة الّتي استعددت لها .. فنظر إليّ ساعة معجبًا، ثمّ قال: للَّه أنت! وهل يقول هذا إلّا مثلك؟! فابن خلدون اختار أن يتضلَّع من هذه العلوم المختلفة، ومن لوازمِ هذا الاختيار ما حصل له من فوات ملكة الشعر وضعف القريحة وجفاف النظم، ومن فضل الله علينا أنَّ ابنَ خلدون اختارَ هذا المسلك المعرفي وإن أضرَّ بموهبته الشعرية، فلسنا نفتقر لمزيدٍ من الشعراء الموهوبين قدرَ افتقارنا لمن يكتب المقدِّمة الباذِخة.
وهكذا فسائر الاختيارات البشرية تتضمن اختيارًا وتركًا في آنٍ واحد، ولذلك يقول ابن تيمية في نص من عيون نصوصه ملخّصًا هذه الفكرة في عَدَدٍ من الأمثلة: (مَن أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير).
واختيارات الإنسان ربما حجبته عن أبوابٍ من الخير في سبيل تحصيلِ أبوابٍ أخرى، فهذا الرجل الصالح عماد الدين الواسطي الذي كان موغِلًا في التصوّف الغالي، ثم منَّ الله عليه بصحبة شيخِ الإسلام ابن تيمية فانتقل إلى معسكر أهل الحديث، ثم كتب الواسطيّ سيرته الفكرية ومراحلَه التي مرّ بها في حياته، وفي أثناء هذه السيرة ذكر شأن أهل الحديث وأنهم رغم فضلهم هم دون الصوفية في شيءٍ من الجوانبِ العمليَّة نحو تفريغ الفؤاد وشدَّة الإقبال، فقال معتذرًا لأصحابِهِ أهلِ الحديث: (لو تفرغوا عن الاشتغال لم يعجزوا عن مقام أولئك ولم يقصِّروا إن شاء الله، لكن الشغل بجزئيات الشريعة، وإقامتها مع انصراف الهمِّ الشديد إليها يوجب أن تبقى عند المقيم لها والمهتم بها بقية من طبعه ونفسه وبشريته، ليقابل النفوسَ بها)، هذا اعتذار الواسطي للجماعة الذين لقيهم من أهلِ الحديث، وإن كان أصل العناية بأعمال القلوب لا يتعارض مع أصل إقامة الشريعة، لكن المتفرّغ لشأنٍ من الشؤون وشعبةٍ من شعب الإيمان يختلف حالُه عن الذي يزاحم بها غيره من الواجبات.
وإذا عُلِم أن الاختياراتِ البشرية تتضمَّن اختيارًا وتَـركًا في نفس الأمر فمن الحصافة بذل الجهد في تحري الصواب وتوخي الهداية، فعمر الإنسان قصير، وطاقته محدودة، والحياة ليس فيها محطة في منتصف الطريق لاستبدال الاختياراتِ الخاطئة!
بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب