فكر العمران البشري عند البروفيسور “خالد الشريدة”

إن من حق قاماتنا العلمية في وطننا العربي أن نسلط الضوء على إنتاجها الفكري ورؤاها العلمية كواجب حتمي تقتضيه المسؤولية الاجتماعية والعلمية تجاه تلك القامات الفكرية النيرة أولًا، وأن نقدم لأجيالنا نماذج هي في الحقيقة مفخرة للسير على نهجم والنهل من معين علمهم الصافي ثانيًا؛ وكي يستفيدوا من أفكارهم ورؤاهم وأطروحاتهم النوعية، وثم يفيدوا بعد ذلك مجتمعاتهم بتنزيل تلك الرؤى على واقعهم المعاصر.
 
يعد أ.د خالد بن عبد العزيز الشريدة عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم وعضو لجنة أهالي بريدة واحدا من الذين ساهموا في إثراء علم الاجتماع -علم العمران البشرى- وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه.
 
فعند السياحة في الفكر الخلدوني الرائد د. خالد الشريدة أطروحاته وكتاباته وإنتاجه الفكري، ومشاركاته العلمية والمجتمعية تجده ينطلق في تأصيله للعمران البشري من مسلمة في حياته الاجتماعية ترتكز على أن عمران فكر الإنسان سيؤثر بكل تأكيد على عمران التنمية والأنشطة والبنيان.
 
وإن الحاجة إلى تأصيل فكر ناضج وحضاري وفاعل، هي مهمة ووظيفة كل مستطيع بفكره وقلمه ولسانه وتعامله ومختلف مسؤولياته.. نخاطب.. في ذلك الرجل والمرأة على السواء.. وذلك الفكر الذي نريده ونحتاجه يجب أن يتأسس إجمالًا على أربع مرتكزات لا حيدة عنها هي أن هذا الفكر:
أولًا: ينطلق من الحق.
ثانيًا: يستهدف الحق.
ثالثًا: يتبنى الحق.
رابعًا: ينافح عن الحق.
 
فالعلم هو المقوم الأساسي لقيام العمران البشري، الجهل هو مؤذن بخراب العمران البشري، والجهل فيه ما هو معلوم من الدين بالضرورة أو من الحياة بالخبرة والممارسة *وأعظم الجهل أن نظن بأن الاستجابة لأنظمة الخلق أصلح من توجيهات الخالق،والجهل المركب يعكس الإصرار على فعله مع العلم بأن نتائجه وخيمة على الفرد والمجتمع والبيئة.
 
وهو يتفق في ذلك مع ابن خلدون مؤسس هذا العلمإن الوظيفة التي حدّدها لعلم العمران تتمثّل في تنقية علم التاريخ من الثغرات المنهجية الناجمة عن الجهل.وجمع أشتات العلوم، أو بناء علاقات استدلالية حين تُعامل مع المعطيات والمعارف قصد تنظيمها لخدمة الفكر، وتنمية قدراته في استيعاب شروط العمران البشري على نحو كلّيّ.
 
فعلم العمران الخلدوني علم عملي، يتوجّه إلى الواقع الذي يعيشه المسلم ليغيّره وفق مبادئ الوحي اليقينية الثابتة.
وأن التطور في العمران البشري لا ينفض عن قيم المجتمع، بل يعززها ويقوي الوحدة الوطنية، ولا يمكن أن تقوى الوحدة في مجتمعنا مع القيم الليبرالية الغربية… لأنها مؤذنة بالسخط والسفه والخراب في العمران البشري.
 
ويردعلى من يقول بأننا سنتطور حينما ننفك من قيم الدين والنظرة للوراء، يقصد بها الإرث النبوي الذي نفخر بأننا ننتمي وننتسب إليه.
 
بأن هذا الفكر المسكين يجهل أن الله كتب ووعد أن التمكين في الأرض مرتبط لنا كمسلمين بالتعبد لله وسياسة الدنيا بالدين كما أنزل ذلك على خير المرسلين رب العالمين.
 
بل إن هناك شرط للتطور والتقدم يستحيل أن يتم دونه هو أننا (قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)..!!هذه الحقائق لا يدركها من يعاديها أو يريد أن يتكسب بتبنيها!
 
ويربط هنا بين ثلاثة أشياء العمران البشري وهو مرتبط بشكل كبير بالعمران الفكري المتمثل في العقول التي تستطيع الاستيعاب ثم تطبق ما استوعبه، وأن العمران البشري لا ينفك عن الدين.
 
فلابد من امتلاك:
العقل الاجتماعي
والعقل الناقد
والعقل التنموي
 
وما لم يحسن الباحث في علم الاجتماع هذا المثلث،فأنه بحاجة إلى دراسة ماهية علم العمران البشري. ولن يحسن ذلك أي باحث ما لم يحمل هم مجتمعه ويتبنى أصالته، ويسهم في رقيه، وما لم نحسن قراءة تراثنا.. لن نتمكن من استشراف مستقبلنا.
 
ما أجمل أن تملك رؤية نوعية تعزز بها أصالة ريادة العلماء المسلمين لعلوم يدعى الغربيون أن لهم يد السبق فيها، فالدكتور خالدلديه رؤية نوعية أن علم الاجتماع رغم تأسيسه على يد أحد علماء المسلمين المبدعين ابن خلدون،وأنه لم ينشئ علم الاجتماع الإنساني والعمران البشري فحسب، بل إنه قد وضع أيضاً لهذا العلم قواعد منهج أصيلة وطرائق بحث مبتكرة. إلا أن هذا العلم الآن تسيطر عليه الرؤى الغربية وتوضع نظرياته ووفق لها، ورواده غربيون رغم أصالة هذا العلم إسلاميا، وأن هذه الرؤية لا تحمل قيمنا الأصيلة بل هي أبعد ما تكون عنه.
 
فدار في ذهنه تساؤل طالما أرقه وشغل فكره دائما.. لمَ لا نمنح أنفسنا الثقة بأننا قادرون.. بل مبدعون في قدرتنا على فهم مجتمعاتنا، وتحولاتها، وما يطرأ عليها من ظروف.. ومتمكنون من وصف كل ذلك، وتحليله، ثم تقديم ما نرى أنه أجدر به في أمنه، واستقراره ووحدته وتنميته بشكل أكبر وأكثر وأجدر وأجدى من استدامة حاجتنا أو لكل ما أنتجه الغرب، التي لا تعني أو بل ربما تناوئ، بيئاتنا ومجتمعاتنا؟
 
بل هي منتج في أصله نبت وترعرع في ثقافة لها ظروفها وأصولها ومتطلباتها المختلفة إلى حد كبير عما نحن عليه! بل إنها في ميلادها انطلقت في عراك مع الدين وقيمه!
 
وإن أهم مكون في عملية التفوق هو مركب (القناعة الذاتية) … فالإنسان غير الواثق في ذاته وقدراته لن يصبح متفوقا مهما تدافعته ظروف التفوق من كل جهة – كما يشير هو-. لذلك فإن مفتاح التفوق يبدأ من القناعة في الذات.
 
وأن من يضع نفسه أمام مشروع جديد أو خطوة مهمة لمستقبله فعليه أن يفتش عن أولئك الناس الذين أجادوا في ذلك المجال قبله ليستفيد من خبراتهم ويختصر الطريق على نفسه خطوات وربما أميالا.
 
هكذا هي الشخصيات التي تحمل هما اجتماعيا ورؤية تريد أن ترتقي بالواقع الاجتماعي لما يستحقه وخصوصا أنه قبلة الإسلام والمسلمين.
 
وينتقل بفكره للحديث عن الظواهر الإنسانية قائلاً: أن الظواهر الإنسانية فيها المتشابهات وفيها المختلفات لكن الفهم والوعي هو أن نمتلك القدرة على تفكيك ذلك وتحليله ومعرفة المتشابه والمختلف.. ومن ثم تقرير الرؤى والنظريات التي تناسب كل بيئة وفق معطياتها.
 
ومن هنا وإلى هنا يجب أن نعي وندرك هذه الحقيقة الإنسانية والمسلمة الاجتماعية وهي:أن الفارق الأهم والمحوري لعلم الاجتماع والخدمة بل كل العلوم التربوية والإنسانية بين رؤيتها الإسلامية ورؤيتها الغربية.. إن الأول جعل من الاجتماع الإنساني عبادة، وأن الثاني جعل منه مادة!
 
الأول يتأسس على وحي معتبر، والثاني يرى أن حياة الإنسان مجرد مختبر!
 
والمسلمة الأولى هي أن ما يحدث لا يمكن أن يقع دون علم الله وإرادته وأقداره.
 
هذا يعني أن سنن الله في الاجتماع الإنساني والحياة بكل معانيها تسير وفق نواميس كونية أودعها الله في السموات والأرض، ويبقى أنها تفعل وتتفاعل وفق تجسيد حقيقة العبودية لله وحده.
 
وتفسير ما يحدث في مختلف مجالات الحياة له عوامله الدينية والدنيوية.. وإذا ما اقتنعنا أو تم إقناعنا بأننا نستطيع تحليل وتفسير ما يقع في المجتمع من ظواهر ومظاهر دون فعل للأقدار الربانية فإننا نقدم مادة مبسورة ومبتورة عن أسبابها وجذورها مكتفين بمظاهرها فقط!
 
وبالنظر للعمران البشريفي كتاباته يقول ” يقرر القرآن الكريم أهمية العمران في الحياة، بل جعل ذلك من الأهداف الرئيسة للإنسان حتى يستقيم معاشه ويضمن مستقبل حياته.
 
والعمران نوعان بشري (معنوي أخلاقي) ومادي ( منشآتومنحزات). ودون شك بأن الأول يؤثر على قوة الثاني.. والثاني ينعكس على الأول في رفاه الحياة.
 
والأول حينما يكون قويا في معناه أثره كبير على الثاني في مبناه. وضعف الأول (البشري) بالتأكيد ستراه ماثلا في إنتاج وإنجاز الثاني حيث الضعف والخمول والتخلف.
 
أهم مظاهر العمران البشري ما يمكن تسميته ب (العمران الفكري). هذا المعنى الذي هو لغز التطور وأس الحضارة، لا يمكن لأي دولة أن تنهض دون حراك فكري فاعل ومتفاعل مع قضاياها، وحمل همومها، والعمل الجاد على تعزيز هذا المعنى في أجيالها، وفي مناهج مستقبلها.
 
والملمح الذي نحتاج إلى تأكيده هنا هو أن عملية التطور والنمو والتحضر لا تعني فقط مظاهر الأشياء وتجلياتها، بل هي أكبر وأكثر عمقًا من ذلك، وبالتالي فانتفاخ الأشياء وتعاظمها لا يعني بالضرورة تطورها وتحضرها، بل قد يعني سقوطها وانحطاطها.. وهذه المعادلة السننية تصح في معظم الأشياء.
 
وعلم العمران البشري هو ذلك العلم الذي يدرس المجتمع الإنساني في تآلفه وتخلفه، في تفرقه وتجمعه، في انعزاله وتضامنه، في أنانيته وتعاونه، في سلمه وحربه، في بداوته وحضارته، في جفائه وتمدنه، في مجده وانحساره. ومن ثم، يهتم هذا العلم بأحوال المجتمعات البشرية وطبائعها وأعراضها وعلومها ومعارفها وفنونها وعاداتها وأعرافها وتقاليدها وصنائعها وبداوتها وتمدنها الحضاري. ومن ثم، يعنى هذا العلم برصد ماهوثابت أومتغير في هذه المجتمعات البشرية، باستخدام العقل والتأمل والحكمة والفلسفة والتجربة والخبرة والمعايشة، واستقراء الواقع التاريخي كليا أو جزئيا. والهدف من ذلك كله هواستخلاص القوانين والأعراض التي تخضع لها الدول والأمم والقبائل والحواضر والتجمعات الإنسانية.
 
وهذا ما تجده حاضرا في طرح الدكتور خالد الشريدة عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي وبحوث العلمية المنشورة، ومؤلفاته، ومحاضراته وندواته العامة والمتخصصة.
 
فالعمران البشريلديه في حاجة مستمرة إلى العمران الفكري السليم وهو لا ينفك عن القيم والعادات الإسلامية الأصلية، فلا عمران بلا فكر، ولا فكر بدون عقيدة صحيحة ومجموعة من القيم الأصيلة الرصينة.
 
هذا موجز مما وقفت عليه من سيرة الفكرية التي أجببت أن أطرحها على الجمهور الكريم.
 
مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “فكر العمران البشري عند البروفيسور “خالد الشريدة”

غير معروف

متالق دائما الصديق الغالي والكاتب الصحفي الكبير ابو محمود نزار عبد الخالق

غير معروف

كلمات من ذهب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *