من علامات النبوغ الفقهي لدى طالب العلم وجودُ حاسّةٍ دقيقة لديه حيالَ الألفاظ المستعملة في التعبير عن المعاني المطروقَة، وهذه الحاسَّة اللغوية موهبةٌ جبليَّة تنمو بالرعاية والسقاية، وأما إذا كانت نفس الإنسان عاطلةً عن تلك الموهبة فمن العسير استيلادها من العدم، شأنها في ذلك شأن سائر المواهب البشرية.
وهي موهبة إنسانية راسخة قبل ورودِ المعارف، ثم هي تتغذَّى منها بعد ورودِها، لذلك حينما أتى عبد الملك الماجشون وهو في حداثة سِنِّه قبل أن يطلب العلمَ إلى المنذر بن عبدالله الحزامي، وتحدَّث أمامَه، اهتزَّ له المنذر لِـمَا رأى فيه مِنْ موهبةٍ لغويةٍ فائقةٍ، وقال له: (اطلبِ العلم؛ فإنَّ معك حذاءَك وسِقاءَك).
وكثيرٌ من الناس إذا سمع الكلام عن الملَكَة اللغوية خطر ببالِه أن المراد بها مدى القدرة على تفتيق الألفاظ وحسنِ سبكِها وصياغَتِها في قوالبَ أدبيَّة، وهذا شيء من جوانب الحاسَّة اللغوية المرهَفَة وليست كلَّها، فالمراد هنا معنى أدقُّ من تلك الجماليَّات، ألا وهو ملكَة القدرة على التمييز بين الألفاظ المستعملة وفَرزِ المناسبِ منها للدَّلالة على المعاني، شيءٌ تجدُه عند بعض أهل العلم وتفتقده عند آخرين، نوعٌ خاصٌّ من الذكاء اللغوي يمنحهم القدرة على التفريق بين اللفظة واللفظة بقدْرِ ما يقتضيه السياق، ويحملهم على المراوحة بين حروفِ الجرّ بحسبِ ما يوجِبُه الخطاب، معنى لا يكاد يدرك مرامِيَه على وجه الدقَّة مَن تتشابه في ذِهنهِ الألفاظُ المتباينة كما تتداخل في عينِ الأعشى الألوانُ المتقارِبة!
شيءٌ تقرِّبه للقارئ قِصَّة الربيع بن سليمان المرادِيّ حينما دَخَل على شيخِهِ الإمامِ الشافعي وهو مريض، فقال له: يا أبا عبدالله قوَّى الله ضعفَك! فقال الشافعي: يا أبا محمد، والله لو قَوَّى الله ضَعْفِي لقتلني! فقال الربيع: أبا عبد الله ما أردتُّ إلا الخير! فقال: لو دعوتَ الله عليَّ لعلمتُ أنك لم تُرِد إلا الخير! فَهاهُنا الإمام لا ينازع في مرادات تلميذِه البارّ، ولكنه لفرط شعوره بالفوارق اللفظيَّة يرشِده لاختيار اللفظِ والتركيبِ الأدلِّ على المطلوب.
ومن العلماء المعاصرين الذين لديهم حظٌ من هذه الموهبة اللغوية الشيخ ابن عثيمين تغمَّدَه الله برحمته، فإنّ الشيخ عالمٌ بدلالات الألفاظ فطرةً، مدقِّقٌ في المعاني جِبِلَّةً، يحبّ أن يفحص المعنى الذي يمرُّ به إما في متنٍ أو كتابٍ أو حتى في سؤال مستفتٍ عابرٍ، وهو يهوى أن يرتِّب لكلِّ معنى من المعاني الألفاظَ المناسبةَ للمَقام، وقَلَّما وقَفَ على معنى إلا وبدأ فيه وأعادَ مُرَتِّبًا أو مُقسِّمًا أو معترضًا أو مستدرِكًا، فلئن كانت مصادر مادَّة الشيخ محدودةً، إلا أن تصرفاتِه العلميَّة واللغويَّة في مادَّته لا حدودَ لها، ولئن كان الجمال والمغالاة في الخيال هما عمودا خيمة النتاج الأدبي فتوخِّي الدقَّة في التعبير وفرط الانتباهِ لدلالات الألفاظ هما عمودا خيمة النِّتاج الفقهي، فالشيخ رحمه الله طويلُ الباعِ في التأمل في الألفاظ وقياس مدى مناسبتِها للمعاني.
وربما كان المعنى في أصلِهِ قديمًا، لكنَّ الشيخ يضع عليه بَصْمَتَه اللغوية الخاصّة، وذلك بأن يسبِكُ له عبارةً مناسبةً في التعبير عنه، فتتناولها الأقلام والألسنة من بعدِه.
فمن ذلك على سبيل المثال مسألةُ معاني الأحرفِ المقطعة في مطالعِ السورِ القرآنية، فهذه المسألة من المسائل المشهورة التي سالَ حولها حبرٌ كثير، ولها تجاذُبات عقديَّة معروفة، ومن الأقوال المشهورة فيها ما رجَّحَه عددٌ من المحقِّقِين وذكَرَه العلامة ابن كثير في مطلع تفسيره بأنه إنما: (ذُكِرَت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه تركَّب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء)، فلمَّا عرض الشيخ محمد العثيمين لهذه المسألة ذكَرَ بعض الأقوال فيها، ثم ذكر هذا القول الراجح، وذكر معه عبارةً جامعةً معبِّرةً عن هذا القول، وهي أن هذه الأحرف ليس لها معنى، ولها مغزى. فهذا السَّبْك اللطيف من صياغِة الشيخ.
ولذلك فإن الدكتور المحقِّق مساعد الطيار وهو المتخصص في علوم القرآن قال بعد أن عرض لهذه المسألة: (الصحيح في ذلك -والله أعلم- ما لخَّصه العلاَّمةُ أبو عبد الله محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى، فقد قال في جواب له عنها: «هذه الحروف ليس لها معنى، ولها مغزى»).
والشيخ رحمه الله لفَرطِ إحساسِه بالألفاظ والتراكيب تجده كثيرَ الاستدراك على ألفاظِ المتون التي يشرحها، فهو في كثيرٍ من الأحيان ليس استدراكًا على المعنى أو الحكم، وليس هو أيضًا استدراكًا من الناحية النحوية أو الصرفِيَّة، وإنما استدراكٌ على صِحَّة مطابقة اللفظ الذي استعمله الماتن للمعنى الذي أرادَه، فهي استدراكات بلاغية تطبيقية على النصوص، وهذا الجانب قليلٌ في شراح المتون، فإن عامَّة المعاصرين لأسبابٍ مختلفة يقصُرون جهدَهم على بيانِ المعاني، فتجد أنّ لديهم مادةً واحدةً يقومون بإنزالها إِنزالا مَظلِّيًّا على كافّة المتون التي يشرحونها، ولا شكَّ أن المعانيَ في نهايةِ المطاف هي المرادَة، فهذا المسلك من المعاصرين فيه تقريب للعلم وتعميم للنفع من وجهٍ، ولكنّ التنبّهَ لدلالاتِ الألفاظ وإيقاظ الحاسة اللغوية حيالَها من أعظم ما يعين على فَهْمِ المعاني والإبانة الدقيقةِ عنها، ولكلٍّ وِجهة هو مولِّيها.
ولهذا الاستدراك من الشيخ مثالاتٌ كثيرة، ولكني أذكر بعض الأمثلة العابرة للاستئناس، وإلا فالشواهد غزيرة في نتاجه:
في مسألة إهداءِ ثواب القُرَب يقول الحجاوي: (وأيُّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفَعَه ذلك). فقال العثيمين: ولو قال: لمسلم ميت أو حي لكان أحسن؛ لأن قوله: لميت مسلم أو حي. قد يقول قائل: أو حي مسلم أو كافر. لكن لو قال: لمسلم ميت أو حي، لكان أوضح، وهذا مراده بلا شك.
وحينما أراد الحجاوي في كتاب البيع ذكر صحة استثناء الرأس والجلد والأطراف من الحيوان المأكول قال: (وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسَه وجلدَه وأطرافَه صحّ)، بنصبِ الرأس والجلد والأطراف، وهي تُوهِم لأولِ وهلة أنها (رأسُه وجلدُه وأطرافُه) بالرفع على أنها نائب فاعل، وهذا ما حصل تمامًا في درسِ الشيخ، فقد غلِطَ الطالب الفاضِل الذي يقرأ عليه المتن، فردَّ الشيخُ تلميذَه إلى الصواب وتلطّف معه غاية التلطّف، وقال: (لو قال المؤلف: وإن استثنى رأس حيوان مأكول لكان أحسن للعبارة وأوضح؛ ولهذا غلط بها جِهْبِذٌ من جهابذة الطلبة).
وهذه العبارة من الشيخ تضمَّنت الاستدراك على عبارة الماتن، واقتراحَ عبارةٍ أخرى، وتقويمًا للطالب الذي يقرأ، وكل ذلك دون أدنى جرحٍ.
ووجه كلام الشيخ في المثالين السابقين في غاية الجلاءِ والظهور لمن عرف المسألتين.
وأحيانًا تكون حاسّة الشيخ اللغوية مستوجبةً للثناءِ على صنيعِ الماتِن وليس الاستدراك عليه، فَمِن ذلك حينما ذكر الحجاوي مسألة التعجل في الحج فقال: (ومن تعجل في يومين خرج قبل الغروب، وإلا لزمه المبيت والرميُ من الغد)، فأثنى الشيخ على صنيعِهِ في اختيار الألفاظ القرآنية، وقال: (قوله: «ومن تعجل في يومين»، أتى بلفظ الآية ونعمَ ما صنع، لأنه متى أمكن الإنسان أن يأتي بلفظ الدليل فهو أولى؛ لأنه يجمع بين المسألة ودليلها مثل قول الماتن: «وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، فهذا لفظ المتن وهو أيضا لفظ الحديث، فمتى أمكنك الإتيان بالألفاظ الشرعية فهو خير وأسلم لذمتك، ويفهم الناس منها ما يفهمون من الدليل).
ومن أنفع شروح الواسطيَّة وأمتعها مع الإيجازِ شرح الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله، وقد قرأ الشيخ العثيمين هذا الشرح وأُعجبَ به وأثنى عليه، لكنَّه كتب على هوامشه استدراكاتٍ شتَّى ظهرت فيها هذه الملكة اللغوية، من ذلك مثلا حينما ذكر هراس مسألة الإيمان باليوم الآخر وبما سيحدث بعد الموت، قال بعدها: (وكلُّ ممكنٍ أخبرَ به الصادق يجب الإيمانُ بوقوعِهِ كما أَخْبرَ)، فقال العثيمين: (الصواب أن يقال: وكلُّ ما أخبرَ الصادق بوقوعه فإنه يجب الإيمان بوقوعه كما أخبرَ، لأنَّ الصادق لا يمكن أن يُخبرَ بوقوعِ مستحيلٍ).
والشيخ يستدرك في استعمال الألفاظ المناسبة للمعاني حتى على شيخِه الذي يجلُّه، ففي تعليقِهِ على القواعد والأصول الجامعة لما ذكر السعديُّ تعريف الأمانات بأنها (كل مال اؤتمن عليه العبد وولِّيَ عليه..)، قال الشيخ: (هذه من الأمانات وليست كل الأمانات أموال).
بل إنَّ الشيخ –ويا للطرافةِ- ليستدرك حتَّى على نفسه، فإنه في مطلع شرحِهِ الصوتي لكتابه فتح رب البرية وقف عند قوله في بيان تاريخ البدع: (تَـجَهَّمَ الجوُّ بظلمات البدع المتنوعة التي كاد بها مبتدعوها الإسلام وأهله، وصاروا يتخبطون فيها خبط عشواءَ، ويبنون معتقداتهم على نسج العنكبوت وأوهى..)، فقال الشيخ: (هذا في الحقيقة عليه اعتراض، لأن في القرآن: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت)، وقد حاول بعض الطلاب في الدرس تصحيحَ العبارة وحملَها على بعض الأوجه القريبة، لكن الشيخ أبى محاولاتهم وَغَلَّط عبارتَه تعظيمًا لجناب القرآن، وقال: (أنا ما أحب أبدًا ما دام في القرآن.. رأيي نحذفها ما دام فيها شبهة).
وعلى كلّ حالٍ فحاسَّة الشيخ اللغوية لها شواهدُ كثيرة، يراها الناظر جليّةً في فتاواه ومؤلفاته، ويلمسها أيضًا في مشافَهاته التي يلقيها على البديهة، وهي تَعدِلُ في كثير من الأحوال رَوِيَّة غيرِه رَصْفًا وترتيبًا وتناسُبًا بين اللفظ والمعنى، وهذا من تمامِ الفقه والعِلم كما يقول ابن تيمية بأن العلمَ (له مبدأٌ: وهو قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمامٌ: وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة).
وعلى طالبِ العلم أن يسعى في اكتساب هذه الملكة اللغوية، باذِلًا أسباب الحصول عليها من مواردِها المختلفة، مُدَققًّا في استعمال الألفاظِ التي هي مادَّة المعارف، فالعلم إنما هو في جوهرِه حقائق ومفاهيم ومعانٍ لا يمكن أن تؤدى على الوجه التام إلا بضبطِ دلالات الألفاظ وحسنِ انتخابِ العبارات.
د. سليمان بن ناصر العبودي
مقالات سابقة للكاتب