ابن حميد (1-2)

🖋️طلب الملك عبدالعزيز من الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله أن ينتخبَ له من حلقته اثنينِ ليبعثَ أحدَهما قاضيًا لبلدة للمجمعة والآخر قاضيًا للدلم، وكان الشيخ ابن إبراهيم دقيق الرأي خبيرًا بتلاميذه واسعَ النظر فيهم، يعرف مراتبَهم كما يعرف الحائكُ الثيابَ والصائغُ الجواهرَ، فانتخَبَ له من طلبَتِه شابَّينِ لامِعَين لم يبلُغا سنَّ الثلاثين، وقال عن الأول: هذا بعيد غاية! -يريد فطنتَه وذكاءَه- وقال عن الثاني: هذا أوسع عِلمًا وأكثر عطفًا عن الفقراء والمساكين. فكانت عبارته مطابقةً لحال الرجلين مع الناس، يشهد على صحَّتها ويبصِم على دقَّتها كلُّ من عرفهما عن كَثَب، فأما الأول فابن حميدٍ وعمره آنذاك 28 سنة، وأما الثاني فابن بازٍ وعمره آنذاك 27 سنة!

وكثير من الأشياخ عبر التاريخ العلمي أطلقوا تقويمات معرفيَّة متعددة لطلابهم الذين ثَنَوا ركبهم بين أيديهم، وذلك بحسب المناسبات المختلفة الباعثة للتقويم، فهذا أبو المعالي الجويني يقول عن تلاميذه إذا تناظروا أمامه: التحقيق للخوافي، والجرَيان للغزالي، والبيان للكيّا الهراسي.

وهذه المعرفة الدقيقة بالتلاميذ ومواهبهم ما هي إلا إرثُ حسن الاتصال بهم وطول معايشتهم، وكثير من طلاب المعارف اليوم لم يحظوا بأمثال هذا الاتصال الروحي مع معلِّمين بارعين يفرغون لهم فسيح أوقاتهم ويفتحون لهم أبواب قلوبهم قبل أن يسكبوا المعارفَ في أسماعهم.

وربما كان لبعض هؤلاء الأقران من التلاميذ فضلُ موهبةٍ أو تأخرُ وفاةٍ أو مواصلةُ إنتاجٍ أو احتفافُ أسبابٍ شتى، فأخمل ذكر مجايليه بعد ذيوع، وأطفأ ضوءَهم بعد انتشار، وهذا يصدق بشكلٍ أو بآخر على حياة هذين الجبلين الضريرين الذين ثَنَيا ركبتيهما في حلقة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وهما ألمع من أنجبت أرض الجزيرة العربية في العلم والعمل والبذل والنصح للأمة، ولأنَّ سيرةَ الجبلِ الأشَمَّ ابن باز لا تكاد تخفى اليوم على أحد، فنحن نتناول طرفًا يسيرًا من سيرة قرينِهِ الموهوب عبدالله ابن حميد رحمهما الله.

وقد أغفلت في هذه الإلماعة ذكر عمل الشيخ في القضاء ونباهَتَه المدهشة في ذلك الشأن، حتى غدت مضرب الأمثال، وذلك لاشتهار هذا الجانب من جوانب شخصية الشيخ، بل قال عنه بعض الباحثين بأنه (خُلِقَ قاضيًا)، فأحببت أن أضع قليلا من الضوء على جوانب أخرى.

الظروف القاسية:
مرّ الشيخ عبدالله ابن حميد في طورِ النشأة بظروفٍ قاسية قيل عنها بأنها: (تُشِيب الولدان، وتزلزل الأركان من عقل الإنسان)، فمن تلك الظروف أن والدَه غادر الدنيا وهو في السنة الثانية من عمره، وبعدها بسنةٍ واحدة يصاب الطفل الصغير بمرض الجدري فيذهب نور عينيه، فصار -وعمره ثلاث سنين- طفلا أعمى يتيمَ الأب، ثم في السنة السادسة توفيت أمه، فاكتمل عقد الأحداث المقلقَة المحيطة بهذا الطفل، فما هذه المصائب المتتابعة في نظر الناس إلا مقدِّمات طبيعية لحياة بائسة، وكأنه مشهدٌ في خيالِ روائي وليس حقيقة واقعية، فَلَكَ أن تتخيل صورةَ طفلٍ ضريرٍ يدرج في حدود السنة السادسة من عمره ملقًى في بيداءِ الحياة لا أمّ ترعاه بحنانها ولا أبَ يحوطه بعنايته.

ولكن شاء الله أن يُخرج من هذه الظروف القاسية شيخًا وقورًا يسعى في مصالح أمةٍ من الناس

قوة الله إن تولَّتْ ضعيفًا *** تَعِبتْ في مِراسِهِ الأقوياءُ

وإذا استنطقنا تراجم الأكابر فليست هذه النتيجة بمستغربةٍ، فكثيرٌ من العظماء عبر التاريخ خرجوا من رَحِم ظروفٍ شديدةِ الحُلْكة، وكأنَّما في الأهوال الشديدة مصانع خفيَّة للرِّجال، وما أجمل ما قاله الدكتور السنهوري ملاحِظًا هذا الجانب المتكرِّر: (إنَّ شيئًا يشترك فيه أكثر العظماء: حياة الشظف والفاقة التي عاشوها أول حياتهم، فنفخت في أخلاقهم روح الصلابة، فأذاقوا الحياة بأسهم بعد أن أذاقتهم بأساءها)، فإذا كانت الظروف القاسية تقضي على الضعفاء، وتحول بينهم وبين بلوغ الآمال، إلا أنه من الملاحظ أنها تزيد صلابةَ الأقوياء بإذن الله، وتصنع منهم رجالًا أفذاذًا يحسنون مكابدة العوارِض.

حكاية النسب:
يعود نسب الشيخ ابن حميد إلى قبيلة بني خالد بلا خلاف، وثمة ما يشير إلى كونه ينتسب إلى حكام الأحساء قديمًا، وهم من بني خالد الذين استمرَّ حكمهم في تلك المناطق أزيدَ من قرنين من الزمان، ولكن الشيخ لم يكن يكترث مطلقًا بهذه الأحاديث التي يتباهى بها في العادة العاطِلون عن المفاخِر، يقول تلميذه الشيخ العبودي: سألته عمَّا إذا كانوا من أمراءِ بني خالد؟ فمَنَعَه ورعه بأن يجزم بشيء من ذلك، بل لم يتحمس له مطلقًا، وإنما قال لي: (إن والدي مات وأنا صغير، وكذلك عمِّي، ولذلك لم أسأل أحدًا هذا السؤال، إلا أنني كنت وأنا صغير أقرأ على شيخي صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ قاضي الرياض، فكان كثيرًا ما يقول لي إذا رآني: أهلا بابن عريعر! يشير إلى حكام الأحساء). ثم يقول الشيخ عبدالله: (ولا أعرف غير ذلك).

ربما يتوهَّم القارئ من خلال ردّ الشيخ ابن حميد أنه كان جاهلًا بالأسر والأنساب، أو على الأقلّ معرضًا عن معرفةِ هذا الجانب إعراضًا كلِّيًّا، والحقيقة أن الشيخ بخلاف ذلك، فقد كان يعرف الأسر والقبائل معرفةً تامة، بل له أمالٍ متفرِّقة فيها انتفع بها أهل الشأن، فعلى سبيل المثال يذكر صاحب كتاب كنز الأنساب أن ابن حميد (له عناية كبيرة بالأنساب، خاصة الأنساب الحديثة، فهو يعرف الأسر والقبائل في الجزيرة العربية ويسرد ذلك، وقد استفدت منه في هذا الجانب عند تأليفي كتاب زهر الأدب، وكتاب كنز الأنساب).

ويقول الشيخ العبودي –وهو الذي صحَبَه عدَّة عقود-: (الغريب أن الشيخ عبدالله ابن حميد رغم حرصه على معرفة أحوال الناس، وإلى من يرجعون إليه؛ لم أسمعه ولا مرةً واحدةً طيلة السنين يحدِّث عن أصلِه! أو أنه من آل حميد حكام الأحساء، أو أنه من آل عريعر)، وهذا واللهِ شأن الكمَلة من الرِّجال في كل عصر، وهو يذكِّرنا على الفورِ بعبارة يحيى من معين: (صحبتُ أحمد بن حنبل خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء!) وقال عامر للإمام أحمد: (يا أبا عبد الله بلغني أنك رجل من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين، وما نصنع بهذا؟!).

الاجتهاد في الطلب:
كان الشيخ حازمًا في طلب العلم، وقد رزقه الله همَّةً عجيبَةً في اغتنام الأوقات، فكان يستمرُّ في الدراسة دون كللٍ، وقد درس في أول نشأته العلمية كل المتون العلمية الدارجة في ذلك الزمان، ثم قرأ على الشيخ ابن إبراهيم في كل العلوم الممكنة، وذلك كرسائل ابن تيمية، وردّ الإمام أحمد على الزنادقة والجهمية، وعمدة الأحكام، ومصطلح الحديث، وزاد المستقنع، وكلُّ هذه المتون حفظها عن ظهر قلب، بل وجدتُّ بعضَ من ترجم له يذكر أنه حفظ (غاية المنتهى) من أوّلِه إلى كتاب الصَّداق! وهذه إن ثبَتَتْ مِن العجائب!

وفي النحو درَس متن الآجرومية وقطر الندى وشرحه وملحة الإعراب وشرحها وألفية ابن مالك وشرحها لابن عقيل، وعلومًا أخرى متعددة، وإذا استصحبنا ما نعلمه من المواهب الفِطريَّة لدى الشيخ ابن حميد علِمنا أن احتشادَ الاجتهاد مع الموهبة في إهابِ هذا الشابِّ الضرير حتمًا سيلفت نظرَ شيخِه إليه، ولذلك فإن الشيخ محمد بن إبراهيم بادر بتعيينه مساعدًا له في تدريس العلوم في المسجد، وما أسعد العالِم وهو يرى ثمارَ غرسِه تتفتح في حياته وتتدلى بين عينيه!

وهكذا كان الأكابر في كل عصر يجتهدون في تحصيل أصول العلوم التي يطلبونها، ويبلغون فيها الغايةَ الممكنة، بخلافِ من يرضى منها بالفُتات ويكون حظُّه من أصول المعارف مراكمة الكتب ومعرفة العناوين، مع التبحُّر من الـمُلح واللطائف، وإنَّ شيوعَ هذه الحالِ مُؤذِنٌ بذهابِ العلوم واندثارِ حملتِها وانقطاعِ أسباب وراثتِها، وهي شكوى قديمة موغِلَة في غيابةِ التاريخ، يقول الجويني في بيانِها: (عاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون، والمتسمَّون بالطلب يرضون بالاستطراف، ويقنعون بالأطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها، أو فصول ملفَّقَة، وكَلِم مرتَقَة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام، فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قربٍ وكَثَب).

وأكثر ما يميِّز العلماء الكبار في كل مجالٍ، أو قُلْ بالمعنى الأدقّ: أكثر ما جعلهم كِبارًا على الحقيقة هو مواصلة طريق العلم والعمل والتعليم من مراتع صباهم إلى آخرِ أيامهم، فغيرُهم يطلب العلم زمنًا ثم ينقطع، والعلم لا يدني رقبته الشريفة لمن يتعامل معه تعاملا موسميًّا بحسب قانون العرض والطلب، فكان الشيخ ابن حميد شَغُوفًا بطلبِ المعارف وبثِّها طيلة عمره، وكان حَفِيًّا باغتنام جميع الأوقات حتى تلك الفواصل الضائعة بين البرامج، وقد قام في تلك المرحلة المبكِّرة بتسجيل بعض أمهات الكتب المختلفة تسجيلا صوتيًّا، ثم يقوم بالاستماع إليها قبيل الإخلاد إلى النوم، ويقول مغتبطًا بهذه الفكرة التي أتيحت له: (المتعة العظمى أن أفتح المسجل على بعض الكتب قبل أن أنام حتى يغلبني النوم، فأنا استفدت من الوقت الضائع ما بين الاضطجاع والاستغراق في النوم).

وبهذا الإقبال التام نفهم ما قيلَ في تضاعيف تَرْجَمته من كونِه إذا درَّس واحدًا من علوم الشريعة والعربية يتوهّم الناظر أنه لا يحسن غيره، فَمَن صَدَقَ في الإقبال على شيءٍ ووُجِدَ لديه الاستعداد الملائم؛ فإنه بالغٌ منه غايتَه بعونِ الله لا محالَة!
للحديث بقية.

 

د. سليمان بن ناصر العبودي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *