لماذا نحتاج لمبدأ حواء؟

🖋️ بعض الكتب منذ أن أُنهيها؛ أضمها مباشرةً لقائمة الكتب القابلة لشراء نُسخ متعددة منها للإهداء للصديقات والمهتمات بالقراءة في المناسبات السعيدة، وكان منها كتاب (مبدأ حواء) أو (المرأة الجديدة) بحسب الترجمة العربية. 

أول وآخر انطباع صاحبني مع كتاب الألمانية إيفا هيرمان هو (الحزن) المتمثّل في تساؤل: لماذا نبدأ دائمًا من حيث انتهى الغرب؟ لماذا لابد أن ننهل منهم حتى لو ثبت بطلان وبؤس ما هم عليه بالتجربة والمعايشة؟ يسطع هنا عَلَمٌ من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم -كدليل من ضمن أدلة أخرى كثيرة على صدق ما جاء به- حينما قال عليه الصلاة والسلام: ((لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وذِراعًا بذِراعٍ…)) .

الميزة الكبرى للكتاب: كونه صادرًا من امرأة لا رجل، غربية لا شرقية، وبهذَين الأمرين أصبح كلامها بمثابة {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} [سورة يوسف:26].

وشهادتها مبنيةٌ على دليل الفطرة، الفطرة التي هي جليّة وبيّنة في العصور كلها إلا عصورنا المتأخرة التي اشتهرت بانتكاساتها الفطرية في ملفاتٍ متعددة. أما الشيء الذي تشهد عليه في كتابها: القضية البدهية الفطرية {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} [سورة آل عمران:36] وأن التباس الهويات وتداخل الأدوار مُشكِل ومؤثر في نواحي كثيرة على حياتنا. تقول الكاتبة: “تتولى النساء مهام الرجال بشكل متزايد……. تسبب التغيير الحالي في الأدوار، في فك القوالب الاجتماعية، مثل الزواج والأسرة. ومع فقدان الأنوثة، قُمعت أيضًا الرغبة في الزواج والرغبة في تكوين أسرة.”.

بطبيعة الحال حديث الكاتبة يميل لأن يكون مختصًا بمجتمعها في بعض الموضوعات، وذلك أنها تتحدث بلسان الخبير عن أشياء واقعة لديهم، بلغت حدًّا كثير السوء نتيجة التأثر المجتمعي بالحركة النِسوية، وهي كغيرها من النساء في وقتٍ سابق كانت قد أعطت معتقدات النسوية فرصة، حتى حانت لحظة الاستجابة لنداء الفطرة، فوضعت الملفات وأعادت ترتيبها بموضوعية للشروع في التفكر والنقاش، حتى لو عنى ذلك أن تترك وظيفتها كمذيعة تلفزيونية وسمعتها كإعلامية مشهورة وناجحة بالمقاييس المعاصرة.

القضية الأساسية في الكتاب هي أن النسوية وأذرعها الممتدة لهيئات دولية ونظرات اجتماعية تُلزم المرأة بالعمل خارج منزلها؛ حتى تعدها بهذا الخروج والدخل الاقتصادي (امرأة محققة لذاتها ومنتجة) فبهذا -وهذا فقط- تحقق الإنجاز والنجاح، وبالتالي السعادة. أما الكاتبة فتبيّن أن هذا ليس الواقع ولا الحقيقة لأي امرأة عاملة ذات أسرة وأبناء وبنات، بل الاهتمام منصّبٌ على جوانب مادية تُقدَّم على غيرها حتى لو كان هذا الغير هو العلاقات الإنسانية. تقول: “يستخدم مجتمعنا المادي والعالمي، الذي بالكاد يأخذ المصالح الفردية في الاعتبار عقائد الحركة النسائية كمبرر، لنزع المرأة من الأسرة وجرّها إلى سوق العمل. ولم يراعِ العلاقات، ولا الزيجات ولا الأطفال”.

وتقول: “إلى أين يأخذنا تحقيق الذات والاحتفال بالنفس؟ ما نوعية الحياة التي تعدنا بها الحياة الفردية؟ دعونا لا نخدع أنفسنا: دون العلاقات، يُدمَر الإنسان، ولا يرغب أحد في حياة تكون فيها الحرية بمعنى الوحدة”.

وقد أحسنت إيفا حينما بدأت كتابها بموضوع (تحقيق الذات “كذبة الحياة” لماذا نجعلها تضحي بكل شيء؟) وأحسنت مجددًا بختمها للكتاب كله بما يبيّن هدفها منه بشكل واضح (الطريق إلى التصالح “لماذا يستطيع مبدأ حواء إنقاذنا؟”) وهذا التصالح يدور بشكل كبير حول سعي النساء للتخلص من الرغبة في تقليد الرجال والشعور بكرههم بغير وعي؛ نتيجة الشعارات والمناهج والسلطات النِسوية، والتي في كثير من الأحيان تستخدم حالاتٍ خاصة من قصص النساء فتعممها، أو ترفض من الأساس الاستماع لوجهات نظر النساء الأخريات – الطبيعيات- وتعدّها نوعًا من الخيانة لجهودهن في النضال، أو تعدّ آرائهن مظهرًا من مظاهر الضعف الذي تحاربه وترفضه.

وبعد حديث طويل للكاتبة عن قضايا كثيرة -نرى كثيرًا منها للأسف في أراضينا البعيدة عن ألمانيا وأوروبا كلها-: العمل، والأطفال، والحضانات، والإجهاض، والكره، والانفصال، والحرب على الحقوق، واسترجال النساء مقابل تخنيث الرجال، والتربية المؤنثة للأبناء الذكور.. وغيرها، قالت كلامًا جميلًا، على بدهيته لكل عاقلٍ وعاقلة لكنه في زماننا أصبح شيئًا من النادر أن يستحضره الناس ويُنزلونه على حياتهم الخاصة، تقول: “دعونا نخمد أسلحتنا، كل بني آدم خطّاء، رجال ونساء.

دعونا نعطي لأنفسنا الفرصة للتعلم والتحدث والتفاوض. العلاقة المثالية غير موجودة، وليس هناك رجل مثالي. مَن مِن النساء تفترض أنها بلا عيوب؟ لقد حان الوقت لأن نرفض سم الأفكار العدوانية في عقولنا وقلوبنا.” تعني سم الفِكر النِسوي الذي ظهرت أعراضه في الجسد الاجتماعي.

ومن جماليات الكتاب التي ارتكز عليها: حرص كاتبته على توجيه الكثير من كلامها للنساء، فخصتهم ببعض المقترحات، وذكّرتهم ببعض الخصال والمميزات، ومن أبرز ما استحضره من حديثها: خصلة العطاء وتلمس مواضع الحاجة والاحتواء في محيطها، فعلى هذا جُبلت المرأة، وكل ما يُدرج في المهارات الاجتماعية عمومًا. ويمكن هنا رؤية التطبيق الواقعي لإيفا في سياق موضوع كتابها، فتقول: “أنصار الحركة النسائية يبنون طريقهم الخاص، يكتبون مقالات وكتبًا، يصنعون السياسة ويضعون القوانين. أما ربّات البيوت والأمهات فليس لديهم هذه الخيارات. لهذا السبب كتبتُ هذا الكتاب.” فهذا سَهم عطاء في موضع تشتد الحاجة للجهد والبذل فيه من جهة.

ومن الأخرى: لا يمكن للنساء الطبيعيات ترك الساحة فارغة لهذر النِسويات، خصوصًا وقد حظين بالصوت والسلطة، وما عاد بيتٌ يخلو من فكرهن إلا مَن رحم الله. فلابد من البذل والعطاء الفكري هنا، كلٌ بحسب وُسعه وطاقته.

الاعتراف بالحق فضيلة. وينجذب العاقل للكاتب المنصف، الذي هو مع الحق يدور معه، بغض النظر عمَن قال هذا أو قال ذاك، فكون الكاتب امرأة لا يعني أن تقف مع النِسويات حيث وقفن، ولا يعني أن تقف مع كل امرأة بغض النظر عن مسألتها وقضيتها، وكذلك الرجل مع الرجال، وكذلك مسائل الأعراق والأجناس والقبائل، وكل ما جرّ إلى تحزّب لأجل شيء لا اختيار للإنسان فيه على الحقيقية! فالقيمة الحقّ للفكرة والقضية في نفسها، وبقدر براهينها ومُجرياتها. يحتاج الناس في رقاع الأرض لقراءة كتب من هذا النوع للتخلص من النقاشات الفارغة، ولاختيار المعارك التي لابد منها بعناية، أما الأُسر فـ”ليست مسرحًا للحرب، ليست ساحة للقتال بين الجنسين وليست ميدانًا لتأكيد الذات المهنية. لا تحارب الأسر حتى آخر قطرة دم، ولا يمكنها تحمل ذلك، بل ستدمر نفسها “.

لا يمكن إدراك قيمة الكتاب بشكل جيد دون معرفة بخلفية كاتبته الألمانية ومجتمعها، وما وصلت إليه النسويات هناك، فالحرية التامة وارتفاع المحظورات يجعل اختيار المرء لموقف قد يُفسّر في زماننا أنه موقف رجعي أو بدائي لا يمكن إنزال ذات هذه التفسيرات السطحية على هذه الكاتبة من تلك البيئة، فالإنسان غنيٌ عن أن يصنع لنفسه أعداءً جُددًا حين يكون في موضع الشهرة والنجاح الماديين، خصوصًا إن كان أعداؤه الجدد يستمع النظام العالمي إلى أقوالهم، وتسري في الناس رؤاهم. لا يحتمل الأمر كثيرًا من التفسير والتكلّف، لقد قالتها إيفا بصراحة: “لقد أمضينا عقودًا في تعقب وعود التحرر الفارغة. لقد أخطأنا في الاعتقاد بأننا سنفقد كرامتنا إذا أنجبنا أطفالًا وإذا قمنا برعايتهم بأنفسنا”.

وفي النهاية.. تبقى إيفا ابنةً للحضارة الغربية، فتنطلق من رؤية كتابها المقدس من تحميل حواء خطيئة عصيان آدم، ومن كوننا يحكمنا التطور الدارويني، وغيرهما من الرؤى التي ترتئيها ويمكن التنبه لها لتجنبها. وقد أشار مركز دلائل للتنبيهات العقدية المهمة، فيُشكرون عليها وعلى اختيارهم لهذا الكتاب القيّم للترجمة.

✍️ جمانة ثروت كتبي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *