الخروج الآمن في العلاقات الإنسانية

ما أجمل أن يهبك الله قلبًا مخمومًا تقيًا، وسريرةً نقيةً، وعقلًا سليمًا تترفع به عن الصغائر وتعفو به عن الزلل، وتتجاوز به عن سفاسف الأمور، وسفهاء الأحلام، تعيش به في منأى ومعزل عن الكراهية والحقد والأذى واللوثات الفكرية والأخلاقية، وتجسد كل معاني البر والرحمة والمحبة في سلوكياتك.

   ما أقصده بالخروج الآمن في العلاقات هو أن تتمثل في كافة معاملاتك قيمَ وصفاتِ خير أمة أُخرجت للناس، فتُظهرَ أفضل وأجمل ما عندك من الخير، وتخفي وتكبح جماح قبيح نفسك، وتُشعر الجميع بالراحة والطمأنينة والأمان في تعاملهم معك، فتألف وتُؤلف، تعاملهم بقيم العدل والإحسان، فأنت لا تمثل نفسك فحسب، بل أنت مؤتمن على إظهار وإيصال رسالة خير أمة أخرجت للناس بسلوكياتك مع الجميع، فتَمَثُّلُ قيمة الإحسان هي الوسيلة المثلي للخروج الآمن من العلاقات الشخصية المزعجة، والتي لا يكون فيها وفاق، أو تكون العلاقة مريحة هادئة ولكنك تضطر للخروج منها كراهية لا طواعية، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وعين الإحسان أن تتجاوز عن من يسئ إليك وتصبر على أذاه، وأن تكون عادلًا في أحكامك عليه بل وتحسن إليه ما استطعت إلى ذلك سبيلًا،  أبلغُ الإحسان أن لا يأتي الأذى لأي أحد من المسلمين من جانبك.

    وفي أسمى العلاقات البشرية – الزواج – أوصى الله عز وجل عباده المؤمنين بالسمو والرقي والإحسان في العلاقات فإما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فالخروج الآمن أن تكون مأمونَ الجانب، جابرًا للخواطر، سهلًا، هينًا، لينًا، مرنًا، وقافًا عند حدود الله، متبعًا لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، تُدخل السرور على كل أحد، لا أن تقيم الدنيا وتقعدها عند الخلافات وتفجر في الخصومة وتبحث عن الانتقام؛ لتشفي غرورك، فتتحول من صفات الإنسانية إلى صفات شيطانية، وتنسى الفضل بينك وبين من كانت لك معه مودة وعلاقة، وانظر كيف كان إحسانه صلى الله عليه وسلم حتى مع الأعداء، في سلمه وحربه، كم دخل في حبل الله من البشر بسبب خُلُقه صلى الله عليه وسلم ولينه وتواضعه،  فكان هديه الإحسان وأوصى صحابته بالإحسان إلى الجميع، حتى وصل إحسانه إلى الجماد والحيوان.

 وقد خاطب الله عز وجل نبيه في كتابه العزيز قائلا: [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة فيصير كأنه قريب شفيق.  [تفسير السعدي].

    وعادة ما تتكون ثقافة المرء وطباعه من خلال المخالطة والمجالسة،  فالأسرة التي ينشأ فيها تشكل النواة الأولى لشخصيته، ثم البيئة المحيطة به، فالإنسان كما يقال ابن بيئته، ثم التجارب التي يخوضها في علاقاته مع الناس فيتأثر في كثير من الأحيان بتصرفات وصفات وطبائع من حوله، فإذا نشأ وترعرع في بيئة مليئة بالمشاحنات والكراهية والعداوة والعنف والمظاهر السلبية فحتمًا سيتشكل عنده أنماط سلبية في تعامله مع الآخرين، والعكس صحيح إذا نشأ وترعرع في بيئة صحية مليئة بالحب والود والقيم السامية سيتشكل عنده أنماط إيجابية في تعامله مع من حوله في المجتمع.

والجميع منا لديه العديد من العلاقات المتنوعة المكتسبة من خلال مسكنه وموطنه، ودراسته وقرابته أو زمالته في العمل وغير ذلك ، تلك العلاقات تتكون وتتوطد بناء على ما يراه المرء من حسن السلوك والصفات الحميدة التي يراها في تلك العلاقة، وهذه العلاقة إما أن تؤثر أو تتأثر بحياة الفرد دينًا ودنيا، فهي ليست جامدة، وبناءً عليه فهي تشكل بشكل كبير مقام الفرد بين الأفراد والمجتمع فكما قيل مقامك حيث أقامك، فينتفع الفرد بالكثير من تلك العلاقات في تعديل سلوكه وسلوك من حوله في محيطه، كما أنها تعطيه فرصة كبيرة لخدمة دينه ومجتمعه ومن حوله قدر المستطاع، لذا يرغب المرء في دوام تلك الصحبة وخاصة إن كانت صالحة، ولا يريد أن ينفك عنها فهي خير معين على دينه ودنياه، “فصحبة الأخيار توفيق من الله لك، فالمرء مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه. ومجالستهم تكسب المرء الصلاح والتقوى، والاستنكاف عنهم تنكب عن الصراط المستقيم. قال الله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ] التوبة: ١١٩.

قال أبو حاتم الرازي: العاقل يلزم صحبة الأخيار، ويفارق صحبة الأشرار؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومودة الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب؛ لئلا يكون مريباً، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير، كذلك صحبة الأشرار تورث الشر.

وعلى الجانب الأخر لا يخلو المرء من التعامل مع فئام من الناس سقيمة الفكر والسلوك لا تعرف الحب والود والوئام ولا معنى الأخوة تسعى إلى الفساد والإفساد بين الناس، ولا تهتم إلا بنفسها، تبدلت فطرتها وانتكست، تتحسر على كل ناجح لغيرها، ولا تريد إلا لنفسها الظهور، يتفننون في إيذاء الناس نفسيًا وجسديًا ويحطمونهم معنويا، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويبتغون الفتنة بينهم ، وبل ويريدون أن يضلوهم السبيل، فالفرار منهم نجاة عظيمة، قال ابن الجوزي:  ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق؛ فإن لم يتشبه بهم ولم يسرق منهم، فتر عن عمله.

وما بين صحبة الأخيار ومعرفة الأشرار هناك أناس وسط يغلبهم الصفات الحسنة أحيانًا وتسيطر عليهم بعض من الصفات السلبية أحيانًا.

وكل فريق من هؤلاء الناس له أسلوب للتعامل معه فما يصلح مع هذا لا يصلح مع الآخر.

وفي الأخير فإن العلاقات الإنسانية الحسنة بنيت لتبقى وتدوم إلى الأبد، خلقت للراحة، والود والتفاهم والحب

والاحترام، خلقت للمحافظة عليها لا لقطعها بالمناوشات والصراعات وكأننا في حرب، ولكن في أحيانًا كثيرة نضطر لقطع تلك العلاقات، وعند قطعها أو الخروج منها لابد من الخروج الآمن في كافة الأحوال.

والخروج الآمن يعنى الخروج من حياة الأشخاص أو مغادرة العمل بكل لباقة وأناقة وسلاسة دون إيذاء مشاعر الآخرين، فلا تكسر قلبا ولا تسفه ولا تقلل من أحد، تخرج من حياتهم وهم يتمنون لو أنك لم تخرج ويتشوقون لعودتك، وتخرج وأنت تتمثل قيم دينك الإسلامية النبيلة، وهم يعددون فيك كل المناقب الحميدة، تخرج وأنت متسامح مع نفسك ومع الآخرين، وتخرج وأنت تصفح مع قدرتك على الانتقام، تخرج مرفوع الرأس، منتصرًا بجميل وجمال أخلاقك لا تجاري السفهاء في سفههم وسوء خلقهم فتكون مثلهم، “فالواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق؛ لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما تذيب الشمس الجليد”.

وتذكر دائمًا أن “ما عند الله خيرٌ للأبرار” ، “وما عند الله خير وأبقى” .

قال الشافعي رحمه الله

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أحْقِدْ عَلَى أحَدٍ

أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ

*****

إنِّي أُحَيي عَدُوِّي عنْدَ رُؤْيَتِهِ

لأدفعَ الشَّرَّ عني بالتحياتِ

مقالات سابقة للكاتب

16 تعليق على “الخروج الآمن في العلاقات الإنسانية

غير معروف

جزاكم الله خير الجزاء مقال رصين في صدق التوجه وبعد عن التكلف

غير معروف

مقال عميق سلمت يمناك الكاتب القدير شيخ نزار
موفق دائما وجزاكم الله خيرا

غير معروف

ماشاء الله، أصبت واحسنت، بارك الله فيك أبا محمود

غير معروف

جزاكم الله خيرا ونفع بكم احسنت

غير معروف

ماشاءالله تبارك الله فتح الله عليكم فضيلة الشيخ 🌺

غير معروف

جزاك الله خيرا ي ابو حور ❤️

غير معروف

جزاكم الله خيراً.. مقال اكثر من رائع

مروان آل التليتي

جزاك الله خيراً الاخ الغالي ونفع الله بك البلاد والعباد

غير معروف

مقال جميل من إنسان مميز

غير معروف

متألق دائما كعادتكم شيخ نزار نفع الله بقلمكم

Elhassan

متألق دائما ابو محمود

غير معروف

جزاك الله خير ونفع بك الامه

Ahmed M7amed

جزاك الله خير واكثر من امثالك ورفع قدرك عند ربك وعند البشرية. وجعلك وسيله وطريقه يهتدي بها من اضل الطريق. وجعلك نورا وردايه.

Mohamed Nour Alshekery

مقال جميل من واحد جميل

غير معروف

فإن العلاقات الإنسانية الحسنة بنيت لتبقى وتدوم إلى الأبد، خلقت للراحة، والود والتفاهم والحب والاحترام، خلقت للمحافظة عليها لا لقطعها بالمناوشات والصراعات وكأننا في حرب، ولكن في أحيانًا كثيرة نضطر لقطع تلك العلاقات، وعند قطعها أو الخروج منها لابد من الخروج الآمن في كافة الأحوال.

غير معروف

فالواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق، وترك سوء الخلق؛ لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما تذيب الشمس الجليد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *