ثقافة العطاء

حين نتأمل الحياة من حولنا، نجد أن البذل هو سُنّة الوجود: الشمس تعطي نورها، والأرض تُخرج زرعها، والبحر لا يبخل بموجه والنهر لايبخل بمائه . كل شيء في هذا الكون قائم على العطاء… فكيف بالإنسان، وهو أكرم مخلوق خُلق ليعطي لا ليأخذ فقط؟ والله قال سبحانه وتعالى (وأحضرت الأنفس الشح) وقال تعالى (قد أفلح من زكاها).

العطاء ليس مالًا يُمنح، بل روح تُبذل، ونفس تُحسن، ووقت يُهدى. والعجيب أن الله، الرحمن الرحيم، لم يجعل العطاء حكرًا على الأغنياء، بل فتح بابه لكل من وسّع عليه في شيء، مهما كان بسيطًا…

ومن هنا، تتجلى عظمة قوله تعالى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾، فتكون هذه الآية مفتاحًا لفهم أوسع وأعمق لمفهوم الإنفاق.

فتأمل هذا الأمر الإلهي الذي يفيض رحمةً وعدلًا. ليست الآية مجرد توجيه مالي، بل هي منهاج حياة، وسلوك يومي، وروح طاهرة تُنفق من وفرة القلب قبل وفرة الجيب.

وقد أجاد الإمام السعدي حين فسرها فقال: “كل ميسور فلينفق حسب وسعه، فليس أحد عاجزًا عن شيء من النفقة، ولو بالقليل”، فكل أحد يستطيع أن يعطي، إن لم يكن بالمال، فبالكلمة، أو الوقت، أو الحنان.

وعمّق ابن كثير المعنى بقوله: “على الغني الموسع عليه في الرزق، فليُوسّع على أهله، وليمسك من الإمساك ما يُناسب حاله”، فالدعوة ليست للإسراف، بل للتوازن، والعدل، والإحسان.

إنّ السعة ليست مالًا فحسب، بل كل ما وسّع الله به على العبد: علمًا، وقتًا، صحةً، مكانة، أو حتى بسمة يزرع بها الطمأنينة في قلب خائف. فليت الناس يُدركون كم أنفق الله عليهم، ليعلموا كم ينبغي أن يُنفقوا على بعضهم.

من وُهبت له الكلمة، فليجعلها صدقة. من وسّعه الله في خلقه، فليجعله ستارًا للناس لا سوطًا عليهم. من أُعطي وقتًا، فليبذله في خدمة أو استماع أو دعاء.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا أن نُدرك أن العطاء ليس حكرًا على الأغنياء، فقال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، ثم ارتقى بالأفق حين قال: «فإن لم تجدوا، فبكلمة طيبة».

إنّ الإنفاق من السعة ليس رفاهية، بل ضرورة لصحة النفس، وصفاء القلب. فالذي يُعطي، يعيش مُطمئنًا، ويأنس بالله، ويحيا لنفع الناس، لا أسيرًا لهواجسه.

تخيّل بيتًا يتنفس هذه الروح: أب يُنفق من حكمته، وأم تبذل من حنانها، وأبناء يتعلمون أن ما لديهم للغير قبل أن يكون لهم. إنه بيت تُضيئه المودة، وتُظلّه السكينة.

وحين يتسع هذا الخلق الكريم إلى المجتمع، فإن العلاقات تترابط، والحواجز تتلاشى، ويشعر كل فرد أنه في كنف أسرة كبرى.

كم نحتاج إلى غرس هذه الآية في مناهجنا، وسلوكنا، وتفكيرنا، حتى نُخرِج جيلًا لا يسأل: ماذا لدي؟ بل يسأل: لمن أعطي؟

إنها ثقافة إيمانية، لا تطلب الكمال، لكنها تفتح الأبواب لكل من أراد أن يُنفق من سَعَته… فالسعة ليست فيما نملك، بل فيما نُعطي.

نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “ثقافة العطاء

د. ايمن عبد العزيز

يا له من نصٍّ مفعمٍ بالإيمان، ومضمّخٍ بعبير الفطرة النقيّة! لقد جسّد الكاتبُ بمنتهى الرشاقة أعظم معاني العطاء، فجعل من آيةٍ واحدةٍ بابًا لفهمٍ شاملٍ للحياة. هنا لا حديث عن المال فحسب، بل عن فلسفة راقية ترى الإنسان خليفةً بالعطاء، لا مستهلكًا بالأنانية.

هذا النصّ لا يُقرأ فقط، بل يُتنفَّس. كل جملة فيه تضيء زوايا القلب، وتوقظ ضمير الإنسان ليعيش رسالته السامية. لقد وُفّق الكاتب في الربط بين النصوص القرآنية، والشرح التربوي، والتأصيل الإنساني العميق، بلغةٍ أنيقة، وروحٍ متزنة، وبصيرةٍ تستحق التصفيق.

هنا نحن أمام بيانٍ يُعيد تعريف الإنفاق: لا كمجرد أداء، بل كطُهرٍ يُبذل، وروحٍ تُشفى، ومجتمعٍ يُبنى.

إنه نصّ ينبغي أن يُعلّق في قلوبنا قبل جدراننا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *