نوار البنجلاديشي

في زمنٍ أصبحت فيه الغربة لا تقتصر على الرحيل عن الوطن، بل تسكن القلوب والمنازل، بتنا في أمسِّ الحاجة إلى دفء إنساني، إلى نظرة حانية، إلى صوت يقول: “أنا أراك، أشعر بك، وأهتم لأمرك”. لم يعد الغريب هو فقط من أتى من بلاد بعيدة، بل أصبح بيننا غرباء كُثُر: من نراهم كل يوم، من يعيشون في بيوتنا، من نحيا معهم دون أن نشعر بوجودهم.

كل واحدٍ فينا يحمل غربته الخاصة؛ غربة الروح، غربة اللسان، غربة الفهم. وما أعظم أن نكسر هذه الغربة بشيء بسيط: كلمة طيبة، ابتسامة صادقة، اهتمام حقيقي، حضن حنون.

أقول هذا، وأنا أتذكر ياسين، الشاب البنغلاديشي الذي يعمل عند أخي الأكبر. منذ أن وطئت قدماه أرض السعودية، نشأت بيننا علاقة قوية. كنت أتحدث معه يوميًا، نتبادل الأخبار والرسائل، صرنا كأخوين لا يفرق بيننا إلا اللسان والبلد. ذات يوم، وكان ينتظر مولوده الأول، قال لي: “يا نوار، إن رزقني الله بولد، فسأسميه باسمك.” لم تكن مجرد كلمة عابرة، بل كانت رسالة حب صافية، هزت شيئًا عميقًا بداخلي.

لقد شعرت بفرح لايوصف، وسعادة كبيرة ، إذ بلغ حبه لي هذا الحد من التقدير ، ففي ثقافتنا السعودية، تسمية الإبن باسم شخص نحبه ونحترمه هو أمر عظيم ، يحمل بين طياته أسمى معاني الوفاء.

حينها أدركت حقيقةً أن المحبة لا تُشترى، ولا تُفرض، ولا تأتي بمصلحة، ولا تُنتزع قسراً، إنها نعمة وهبة من الله، وثمرة لسلوك طيب، وتعامل حسن، وقلب رحيم ودماثة خلق كما يدعوننا إلى ذلك ديننا الحنيف.

المحبة كما ذكرت سابقاً قد تكون أحياناً بكلمة لطيفة، أو إبتسامة صادقة ، أو حتى تربيتة على كتفٍ مرهق.

وهي ما يمنح المساكين والغرباء شعوراً بالأمل ويمنحهم طاقة للمضي قُدماً في مواجهة صعاب الحياة.

كان ياسين لا يعرف العربية حين جاء، فتحدثت معه بالإنجليزية، ثم بدأ يتعلم شيئًا فشيئًا حتى أتقنها في أقل من عامين. علمته الوضوء، وشجعته على تلاوة القرآن، وأهديته مصحفًا بلغته، فبدأ يقرأ ويقترب من ربه، ومني.

صار يستشيرني في كل صغيرة وكبيرة. إن ضاقت عليه دنياه، اتصل بي، وإن فرح، شاركني فرحه. ومع مرور الوقت، توثقت علاقتنا، وصارت محبتنا في الله خالصة، لا يشوبها شيء.

تأملت علاقتي به، وتذكرت أن ديننا لم يكن يومًا دينًا جامدًا، بل دين حنوّ ورحمة ومحبة. لقد أوصى بالجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، وذوي القربى. علمنا أن نكون رحماء، أن نشعر بالناس، أن نحتضنهم، لا أن نحاكمهم.

المحبة لا تحتاج إلى لغة، يكفي أن تكون إنسانًا. والدين ليس منظومة أحكام فقط، بل هو دفء، وهو حضنٌ لكل من ضاقت به الأرض.

حين نمنح الغريب محبة، نمنح أنفسنا طهارة. وحين نحتوي غيرنا، نرتقي بأنفسنا.

ربما لا أستطيع أن أغيّر العالم، لكنني أستطيع أن أبدأ من ياسين، ومن نفسي، ومنك أنت… من حيث نقف.

هكذا، نتعلم أن أعظم ما يمكن أن نمنحه في هذه الحياة ليس مالاً ولا منصبًا، بل قلبًا مفتوحًا، ويدًا دافئة، وكلمة طيبة.
نُولد بشرًا، لكننا لا نُصبح إنسانيين إلا حين نشعر بغيرنا، ونتجاوز حدود أنفسنا لنلامس قلوب الآخرين.

ياسين ومن هم في مثل حاله من العمال ، يعانون من قسوة الغربة ، والبعد عن الأهل ، ويقاسون مشاق الحياة.
هؤلاء بحاجة إلى قلوب حنونة، تسمع لهم، وتحتضنهم، وتمنحهم دفء الإنسانية.

فالغربة ليست فقط في البعد عن الأوطان، بل قد تكون في القرب من الناس دون شعور، وقد نعيش في قلب البيت غرباء. هناك من تغرّب عن أهله قسرًا، وهناك من اختار الصمت والتقوقع رغم أنه بين أحبّته. وغربة المكان تُداوى بالمحبة، أما غربة الروح فلا يُنقذها إلا دفء الإنسانية، وصِدق القرب، ونور الإيمان.

وإن كانت الغربة قدرًا لبعضنا، واختيارًا لآخرين، فلتكن المحبة قرارًا منا جميعًا، ولتكن الرحمة جسرًا نعبر به من عالم القسوة إلى حياة أطيب، وأقرب إلى الله، وأحن على الإنسان.

في النهاية، لا شيء أعظم من أن يكون الإنسان سبباً في زرع المحبة في قلب غريب ، فذلك عند الله أعظم أجراً ، وعند النفس أنقى أثراً.

 نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “نوار البنجلاديشي

د. ايمن عبد العزيز

ما أروع هذا المقال الذي لامس شغاف القلب، وجسّد بصدقٍ عمق المعاني الإنسانية في ثوبٍ إيمانيٍّ نقي. لقد جمعت فيه بين رقة الأسلوب، وصدق التجربة، وجمال الرسالة التربوية والدينية، فجعلتنا نرى بعين القلب، ونشعر بوجع الغريب، ونسعى لنكون من أهل الرحمة والمحبة. جزاك الله خيرًا، وبارك في قلمك النبيل.

حسن حمزي

في زمن يشتد فيه الخصوص بين الناس، تبرز شخصية نادرة تحمل في طياتها بذور الإنسانية والود، إنه نوار.. الرجل الذي جعل من أخلاقه مرآة تعكس جمال الروح، ومن قلبه ملجأ لكل من يستظل برقته.

ليس الإنسان بماله أو مكانته، بل بقدر ما يوزعه من حب وعطاء، وهذا ما تحقق في نوار. فقد جسد بسلوكه معنى الكرم الحقيقي؛ كرم القلب الذي لا يميل إلى الانتقام، ولا يرى في الآخرين إلا جمالاً يناقشه أو زلة يغفرها. هو كالبحر يتسع لكل الأمواج، وكالغيث يروي الأرض قبل أن تطالبه بالقطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *