أمة لا تقرأ .. أمة لا تنهض

في زمنٍ تتسارع فيه التقنية، وتزداد فيه الضغوط، ويغمرنا فيه سيلٌ من المشتتات، تراجعت القراءة حتى كادت أن تصبح من مفردات الماضي. لم تعد عادةً يومية كما كانت، ولم تعد تمثل غذاءً للروح كما ينبغي. فهل فقدنا البوصلة؟ وهل استسلمنا لواقعٍ أصبح فيه غثاء وسائل التواصل الإجتماعي بديلاً عن المعرفة العميقة؟

هذا المقال محاولة لقراءة الواقع، ومساءلة أنفسنا: لماذا تراجع حضور الكتاب في حياتنا؟ وما السبيل لإعادة الروح إلى هذه العادة العظيمة التي لا تقوم نهضة ومجد الأمم إلا بها؟

في زحمة الشاشات، ووسط ضجيج المقاطع القصيرة وتطبيقات التسلية التي تسرق الوقت بلا استئذان، يقف الكتاب في زاوية النسيان. لم يعد في يد الطفل، ولا على مكتب الشاب، ولا حتى على رفّ غرفة المعيشة. وكأنّ جيلاً بأكمله ودّع الكتاب بصمت، دون جنازة أو رثاء.

في واقعنا العربي والخليجي، نشهد مظاهر هذا التراجع المؤلم كل يوم. المكتبات العامة باتت شبه خاوية، ومعارض الكتب الكبيرة أصبحت مناسبات نخبوية أكثر منها شعبية. أما في البيوت، فقد استُبدلت أوقات الحكايات والقراءة بأجهزة لوحية وهواتف ذكية، تبتلع الساعات وتخدر العقول.

لكن، ألم نكن نحن أبناء حضارة “إقرأ”؟ ألم تكن أول آية تنزل من السماء إلى الأرض تقول: “إقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”؟ أين نحن اليوم من هذا الإرث العظيم؟ أين نحن من حضارة كانت فيها مكتبات بغداد وقرطبة تضيء عتمة الجهل الأوروبي؟ كان العالم يأتي إلى علمائنا يسأل، واليوم يسأل أطفالنا “كيف أنشر مقطع فيديو بائس عك على منصة التيك توك؟”

الواقع مؤلم وصادم، لكن غير ميؤوس منه. تشير مشاهدات من مدارسنا إلى أن نسبة كبيرة من الطلاب لم يقرؤوا كتابًا خارج المنهج في حياتهم. الجامعيون يكتفون بملخصات المحاضرات، وبعضهم يرى القراءة “تضييع وقت”! بل حتى بعض المعلمين لا يخصصون دقائق للحديث عن كتاب قرأوه، وكأن العلم انفصل عن القراءة.

السبب ليس فقط في التقنية، بل في ثقافة تعليمية تقتل الشغف، وتعوّد الطالب على الحفظ لا على التساؤل. غياب القدوة يلعب دورًا كبيرًا أيضًا، فلو رأى الطفل والده يقرأ، أو سمع معلمه يوصي بكتاب، أو شاهد مؤثرًا يتحدث عن كتاب غيّر حياته، لاختلف الأمر كثيرًا.

نحتاج لوقفة عملية جادة وصادقة تبدأ من البيت. نحتاج لجعل القراءة فعل حبّ، لا واجب مدرسي. نحتاج أن نربط بين الكتاب وحياتنا اليومية، أن نقدّم لأطفالنا قصصًا تنبض بالحياة، لا كتبًا ثقيلة تبعث على النعاس. أن تكون القراءة عادة يومية ولو لعشر دقائق فقط يومياً حتى يعتاد النشء والجيل على هذه المهارة لتصبح عادة روتينة يومية لا ينفك عنها.

ولنُصدّق حين نقول: أمة لا تقرأ، أمة لا تنهض. ولْنردّد ما قاله إديسون وهو على مشارف النهاية: “القراءة الدائمة بلا انقطاع، والعمل الدائم بلا يأس… هما سر النجاح.”

ختامًا، لعل كلمات المفكر الأمريكي شارلي جونز تلخص الفكرة: “ستكون في الموضع نفسه بعد خمس سنوات، إلا إذا التقيت بالأشخاص المناسبين، وقرأت الكتب المناسبة.”
فهل نبدأ من الآن؟

✍️ نوار بن دهري
‏NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “أمة لا تقرأ .. أمة لا تنهض

د ايمن عبد العزيز

ما أروع هذا المقال العميق الذي لامس جرحًا غائرًا في واقعنا الثقافي! لقد نجح الكاتب في تشريح الأزمة بدقة، ووضع يده على الجرح دون تجميل أو تبرير. نعم، لقد تراجعت القراءة حتى أصبحت طقسًا من الماضي، وتحوّلنا إلى أسرى للشاشات والمحتوى السطحي.

الإشادة هنا ليست فقط بقوة الطرح، بل بصدق الألم وحرارة الدعوة التي تنبض من كل سطر. المقال دعوة مخلصة لإعادة إحياء فعل القراءة لا بوصفه عادة ثقافية فقط، بل كضرورة حضارية لا تقوم للأمم قائمة بدونها.

نعم، نحن أبناء “اقرأ”، ويجب أن نكون أول من يردّ الاعتبار للكتاب في زمن التيه الرقمي. آن الأوان لأن نكون القدوة، نقرأ أمام أبنائنا، ونتحدث عن الكتب كما نتحدث عن الطعام واللباس.

فهل نبدأ؟ بل يجب أن نبدأ، اليوم، الآن، قبل أن ننسى كيف تُفتح الكتب.

همام وصمصام

المقال أتى على كبد الحقيقة وأصاب السهم في رميه كما يقولون افتقد الجيل الهام القراءة ومتعة الاطلاع وذلك عائد تشتيت الجهود في وسائل التواصل وغير ذلك.
ومن واقع تجربتي مع القراءة أزعم أني حققت الحد الأدنى من الاطلاع بشكل يومي في الصباح وفي الليل قبيل النوم.
أحسب أن مشكلة الناس اليوم ليست في القراءة فحسب بل أيضا مع قضية أخرى لا تقل أهمية ألا هو ماذا يقرأ وماذا تستفيد مما تقرأ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *