لم تعد الأصوات تلعو في البيوت كما كانت…
لا ضحكات تملأ الأركان، ولا حكايات تُروى على مائدة العشاء. أصبح كل شيء صامتاً إلا نقرات الأصابع على الشاشات، وضوء الأجهزة المتوهج في وجوهٍ متعبة.
تحوّلت البيوت إلى جزر معزولة تسكنها أجساد متقاربة وقلوب متباعدة.
تجلس العائلة في مجلس واحد أو حول مائدة واحدة، لكن لا حوار ولا أنس عائلي. الكل مشغول بعالمه الخاص، فمثلا الأب مشغول بهاتفه، والأم تتابع مقاطع “المؤثرين”، والأبناء غارقون في الألعاب الإلكترونية أو مقاطع قصيرة لا تنتهي.
العيون تحدق في الشاشات، والأرواح تتيه بعيدًا…
هكذا أصبح المشهد اليومي في كثير من بيوتنا: كل فرد يعيش في عالمه الافتراضي، متناسيًا من حوله.
لقد غاب التلاحم، وتلاشت لحظات الحوار، وضاعت ضحكات المساء.
إنه التفكك الصامت، لا يُسمع صراخه لكنه يفتك بالعلاقات…
أصبح من الشائع أن يعرف الطفل تفاصيل حياة “مشهور تافه” أكثر من معرفته بقصة والده أو حلم أمه.
والأخطر من كل هذا: غياب القدوة.
كان الأب والأم هم النبراس، فصاروا في الخلف، يتعلمون من “التيك توك” و”السناب شات” وغيرها من برامج التواصل الإجتماعي والألعاب التي لا حصر لها كيف يربّون ويتعاملون مع أبناؤهم!!؟
ووسط هذا الإستهلاك والهدر الكبير للوقت الذي هو مادة وأكسير الحياة وبين الزحام الإلكتروني العظيم، تظهر وجوه عابثة، تصنع لها أتباعًا وملايين المشاهدات، ولا تملك ولا تُصدِّر سوى تفاهة لامعة تخطف العقول وتُميت القلوب.
المفكرون، المربون، المعلمون، والآباء… جميعهم أمام معركة شرسة لا هوادة فيها.
معركة تستهدف العقل والروح، وتعيد تشكيل الوعي، وتُقصي القيم، وتُضعف أثر التربية.
لكن ورغم السواد الذي يلفّ المشهد، تظل هناك ومضات أمل ونداء خافت بأن هناك من لا يزال يؤمن بأن القدوة تبدأ من البيت، وأن الوقت الذي يُقضى مع الأبناء أغلى من أي محتوى على الشاشة.
هناك من يحارب بصمت، يزرع القيم في أطفاله، ويُعيد للحوار مكانه، وللحب حضوره، وللأسرة معناها.
ليست الحرب خاسرة، لكنها تتطلب يقظة، وثباتًا، وإرادة.
فهل نبدأ من بيوتنا؟ هل نُغلق الشاشات ساعة لنُحادث أبناءنا؟ هل نعيد دفء اللقاء؟
ربما يكفي ذلك ليبدأ التغيير.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب