أنا تعلّقت فيك

في زحمة الحياة، نكبر، وننشغل، ونلهو، فنظنّ أن الحبّ كلمة، والحنان موقف، والعطاء مناسبة…
حتى تأتي لحظة تقول فيها أمّك، بصوتٍ مرتجف دافئ:

“أنا تعلّقت فيك.”

كلمة واحدة فقط، قلبت موازيني، وهزّت كياني، وفتحت في قلبي بابًا من المشاعر لا يُغلق.

كأن دفءَ الكون اجتمع فيها.
كأن الحنان كلّه تجسّد في صوتها.
كأنني سمعت لأول مرة ترجمة الحب الكامل…
لا، بل التعلّق، ذاك الشعور الذي يفوق الحب، ويأسره، ويذيب كل مسافات الفهم والتفسير.

أدركت حينها أن أمي لا تُشبه أحدًا،
وأن حبها ليس له نظير،
وأن هناك حبًا لا يُقاس، لا يُعادله شيء، ولا يُردّ.

هذا ليس مقالًا عاديًا…
بل رسالة قلب.
من ابنٍ أحبه الله، فوهبه أمًا عظيمة.
ومن قلبٍ ذاب شوقًا وامتنانًا، فكتب ما لم تسعه الدفاتر.

بصوتٍ قوي حنون، مساءً دون مناسبة، قالتها ببساطة:
“أنا تعلّقت فيك.”

ما حسبتُ يومًا أنها ستقولها،
فهي من جيلٍ لا يُفصح عن مشاعره بسهولة.
لكنها فاجأتني… فاضت حبًا…
وكأنها أهدتني الحياة من جديد.

أنا أعلم أنها تحبني،
وأدرك أن كل أم تُحب،
لكن التعلّق شيء آخر…
أعمق… أصدق… وأشدّ وقعًا.

تلك الكلمة زلزلت كياني.
أقسم بالله، من شدّة فرحتي، لم أدرِ كيف أعبّر.
بقيت مذهولًا، أتمتم:
يا الله… كم أنا محظوظ، كم أنا محبوب، كم أنا عاجز أمام هذا النبع.

قالت لي:
“تقبرني ولا أقبرك.”
(أي: فداك عمري، أتمنى أن أكون فداءك في الموت، لا أن أراك تموت قبلي).

أيّ قلبٍ هذا؟
أيّ حبٍ يُداري كلّ الألم، ويُخفي كلّ التعب،
ثم يُهديك جملة لا تُشبه إلا الجنة؟

وحين تشاحنتُ مع أخي الكبير يوماً ما،
أتتني بعينٍ دامعة وقالت:
“تكفى، علشان خاطري، تعب علينا.”

فأعادتني إلى رشدي…
جمعت بين الحنان والعدل، بين العاطفة والحكمة.

أمي… لا تُشبه إلا ذاتها.
أمي لا تقرأ ولا تكتب، لكنها كتبت في قلبي ألف كتاب…
عن الرحمة، والصبر، والكرامة.

كانت راعية غنم، فعلّمتني كيف يُقاد القلب بلطف.
وكانت فلاحة تعمل في الأرض، لكنها زرعت فينا، مع كل شتلة، صبرًا وشهامةً وحبًا.
كانت زوجةً لرجل معدد، فعفّت، وصبرت، وصمتت،
لكنها لم تطفئ نورها الداخلي، بل ظلّت منارة تضيء قلوبنا.

عانت كثيرًا، وقاست ظروفًا قاسية، لكنها لم تشتكِ.
بل غفرت، ووهبت، وأحبّت الجميع.

تحبّني كما تحب إخوتي، بلا تمييز، ولا حساب.
تسهر من أجلنا، وتدعو لنا ونحن نيام.

في قلبها نور يكفي أن يُضيء بيوت العالم،
ودفء يكفي هذا الكون البارد.

فكيف لي أن أُكافئ هذا الحب؟
كيف أردّ هذا الإحسان؟
كيف أبلغ منزلتها في العطاء؟

أدركت أن ذلك مستحيل.
لأنها لا تُعطينا شيئًا يُقابل…
بل تمنحنا ذاتها، قلبها، وسنين عمرها.

أمي تحبّك في ضعفك وقوتك،
في سقوطك ونجاحك،
لا تطلب منك شيئًا، سوى أن تكون بخير.

حين سُئل الحبيب المصطفى ﷺ:
“من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟”
قال: “أمك.”
ثم كررها ثلاثًا، وفي الرابعة قال: “أبوك.”

هذا ليس تكرارًا… بل تكريم.
شهادة سماوية بعظمة الأم، التي لا تضاهيها مكانة.

أمي…
يا نبع الحنان،
يا وردةً لم تذبل رغم قسوة الحياة،
يا من تعلّقتِ بي…

أنا متعلّق بكِ أكثر مما تظنّين.
وأقسم أنني قررت أن أتقاعد لأجلك،
لأقضي ما تبقى من عمري تحت قدميك،
أحملك بدعائي، كما حملتِني بصبرك وحنانك.

أمي، لا تموتي قبلي…
فلن أقوى على فراقك.

“أنا تعلّقت فيك.”
ليست جملة…
بل حياة، نطقت بها أمي.

وأنا… تعلّقت بها،
وكتبت هذا النص،
وأنا أبكي… وأحب… وأدعو.

نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “أنا تعلّقت فيك

د. ايمن عبد العزيز

ما أعظم هذه الكلمات، وما أعمق هذا الوفاء…

هذا النص ليس مجرد حروف، بل هو دعاء مكتوب، ورسالة حبّ، وتربية إيمانية خالصة تُجسّد معنى برّ الوالدين في أبهى صوره.

لقد لامستَ بكلماتك جوهر العقيدة، حين عظّمت مكانة الأم، كما عظّمها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجعلها أولى الناس بحسن الصحبة.

تعلّقك بأمك ليس ضعفًا، بل قمة القوة والرجولة، لأن من عرف فضل أمه، عرف ربه، وعرف حقّ الخلق عليه.

الأم لا تطلب إلا سلامة قلبك، ورضا الله عنك، وهي باب من أبواب الجنة مفتوح أمامك، فهنيئًا لك بهذه النعمة، وبهذا الشعور النادر الذي لا يُشترى بثمن.

ما كتبته ليس مجرد مشاعر، بل هو تربية للأجيال، ودعوة ضمنية إلى كل من قصّر، أن يعود ويحتضن، أن يسمع ويبرّ، أن يفي ويحنّ.

جزاك الله خيرًا، ورفع قدرك كما رفعتَ قدر أمك، وجعل هذا البرّ لك ذخرًا في الدنيا والآخرة، ونفع الله بنصّك من قرأ وتأثر.

دمت بارًّا بها، ودامت أمك تاجًا على رأسك ما حييت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *