في عالمٍ يُفترض أن يكون فيه البيت حضنًا دافئًا، يتحوّل عند البعض إلى سجنٍ صامت، وساحة عذابٍ نفسي وجسدي، تنطفئ فيه الأرواح قبل أن تكتمل ملامح طفولتها. إنها مأساة الأبناء الذين كُتب عليهم أن يولدوا في أسر تفتقد الأمان، ويكون أول من يُفترض أن يمنحهم الحب هو أول من ينتهك براءتهم.
الآباء المتنمّرون – سواء كانوا الأب أو الأم أو كليهما – يمارسون عنفًا لا يقتصر على الصراخ أو الضرب، بل يمتد إلى نظرات الازدراء، وكلمات التحقير، وتجاهل الاحتياجات النفسية والعاطفية للأبناء. قد يتجذّر هذا التنمّر من جراحٍ نفسية لم تُعالج، أو من طلاقٍ قاسٍ، أو من ترمّلٍ فجائي، أو ببساطة من قلبٍ لم يعرف يومًا كيف يُحبّ.
هذه الأبوة المتنمّرة لا تُشبع جوعًا للحب، بل تُغذّي خوفًا مزمنًا من الرفض. فبدل أن يُنصت الوالد أو الوالدة لطفلٍ يكافح ليُحبّهم رغم قسوتهم، يُقابل بالصراخ أو المقارنة أو الإهانة، حتى يصبح الصمت وسيلته الوحيدة للبقاء.
والمجتمع، في كثير من الأحيان، شريكٌ في الجريمة، حين يغضّ الطرف عن هذه الأرواح المكسورة، أو يطالب الأبناء بالصبر والبرّ على حساب كرامتهم وسلامتهم النفسية. تُخمد أصواتهم بالعبارات الجاهزة: “هو أبوك مهما كان” أو “هي أمك”، أو “اصبر أو اصبري، كل بيت فيه مشاكل.” وهكذا تُترك الجراح تنزف في الخفاء، ويُدفن الألم تحت قشرة من الإنكار.
أخطر ما في هذا الواقع، أن الطفل المحروم من الحنان الأسري يبحث عن الحب في الخارج: في علاقاتٍ عابرة، أو صداقاتٍ استغلالية، أو حتى عبر شاشاتٍ باردة لا تُعوض دفء حضنٍ صادق. وقد يختلط عليه مفهوم الحنان، فيقع فريسة لأوهامٍ تُغذي احتياجه ولا تشبعه، وتُشعره بالذنب لا بالطمأنينة. وقد ينحرف هذا الابن في مسار حياته، فيجنح كما تجنح السفينة التائهة، ويقع فريسة لمن لا ضمير له، فيُستدرج إلى جماعات إرهابية تستغل هشاشته العاطفية. وقد رأينا كيف أن وقود كثير من هذه المحارق هم شبابٌ من أسر مكسورة من الداخل، وإن بدت متماسكة من الخارج.
ما أقسى البيوت التي تحوّلت إلى ساحة “هولوكست” نفسي، يُعذَّب فيها الأبناء – بنات وبنين – على يد آباء متنمّرين، يزرعون الخوف بدل الحب، والشك بدل الأمان. يكبر الأبناء في تلك البيوت وهم مشوّهون نفسيًا؛ فقد كانوا أطفالًا يبحثون عن الحنان، فأصبحوا شبابًا، ورغم كبر سنهم إلا أن التنمر يزيد في حجمه ونوعه ولا يقل، وذلك لسبب بسيط، وهو رعب الوالدين من أبنائهم، لأنهم يعلمون أنهم ظلموهم. هذا الخوف يزداد، وبالتالي تزداد القسوة والتنمّر، ما يعكس الخوف الداخلي للآباء من انتقام الأبناء في المستقبل. هم يريدون الشعور بالأمان فيزيد تنمرهم رغم كبر سنهم وضعفهم بالأمراض وكبر العمر.
بعض الآباء والأمهات يقفون حجر عثرة في طريق سعادة أبنائهم؛ يرفضون الخطّاب حتى تفوت فرص الزواج، أو يفرضون زواجًا معينًا يرفضه الابن، وربما يمنعونهم من إكمال تعليمهم العالي أو تحقيق طموحاتهم المهنية. هؤلاء الأبناء، وقد أنهكهم الخوف، لا يملكون الشجاعة لأسباب نفسيه ومجتمعيه لاتخاذ الإجراءات التي كفلها لهم الشرع من حقوق الرحمة والعدل، وما أتاحه لهم القانون من حماية نفسية واجتماعية، فيعيشون أسرى في سجون الصمت.
يمثّل التنمّر الأبوي انعكاسًا لجراح نفسية دفينة لم يتم التعامل معها أو علاجها. فغالبًا ما يكون الوالد المتنمّر ضحية هو الآخر في ماضٍ لم ينصفه، فقام دون وعي بإعادة إنتاج الألم الذي تعرّض له، ظنًا أن القسوة هي الشكل الطبيعي للتربية أو التعبير عن السيطرة. كما أن بعض الآباء يعانون من اضطرابات في الشخصية، مثل الشخصية النرجسية أو السيكوباتية، مما يجعلهم غير قادرين على التعاطف مع أبنائهم، وينظرون إلى الطاعة لا كعلاقة حب واحترام متبادل، بل كحق مكتسب للهيمنة. هذا النوع من السلوك غالبًا ما ينبع من شعور داخلي بالتهديد أو فقدان السيطرة، فيتحوّل إلى عنف لفظي أو نفسي أو جسدي، بدافع حماية صورة الذات لا حماية الأبناء. وهكذا، يصبح الطفل مرآة مشروخة يرى فيها الأب ما لا يحتمله في ذاته، فيمارس عليه الإسقاط والتنمّر بدلاً من المحبة والرعاية. ولعلّ فهم هذه الجذور النفسية لا يبرر الأذى، لكنه يمنحنا مفتاحًا لتفكيك دوامة الألم، وبدء رحلة شفاء لكل من الطفل والوالد معًا.
إنّ الأبوة ليست سلطة تُمارَس، بل مسؤولية تُحتَضن. ومن الخطأ أن نظن أن الاحترام يُنتزع بالصوت العالي، أو أن الطاعة تُفرض بالقهر. فالأب أو الأم الذي يهين، يهدد، يقارن، يسخر، أو يعاقب دون فهم – لا يُربّي، بل يهدم. ما نحتاجه ليس مجرد التوعية، بل وعيًا جديدًا يعيد تعريف مفهوم الأسرة بوصفها مأوىً للطمأنينة، لا ميدانًا للقهر.
ختامًا، ليست كل الجراح مرئية، لكن أكثرها إيلامًا هو ما يسكن الروح في صمت. فلنكن صوتًا لتلك الأرواح المعذّبة، ولنفتح النوافذ المغلقة علّ النور يشفي ما أظلمته القسوة. ولنكن جزءًا من التغيير، بالكلمة، والموقف، والمساندة، حتى لا تبقى هذه البيوت سجونًا للأبرياء.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب