ليست الحروب وحدها ما يهدد مستقبل الأمم، بل الكسل والخمول أيضًا، عندما يتحولان إلى عادة جماعية وسلوك عام. نحن اليوم نرى أمة تموت ببطء، لا برصاص الأعداء، بل بـ”الكرسي”، و”الريموت”، و”الهاتف”، و”الوجبات السريعة”، والجلوس الطويل الذي حرم الأجسام من الحركة، والقلب من اللياقة، والعقل من النشاط.
في زمنٍ لم يعد فيه الجسد شريكًا حقيقيًا للعقل، ولا القلب رفيقًا دائمًا للنشاط، تسلل الكسل إلى حياتنا كما يتسلل الغبار إلى الزوايا المنسية.
صارت الحركة ترفًا لا ضرورة، والنشاط خيارًا لا غريزة. لم نعد نركض كما كنا أطفالًا نلعب ونحرث ونرعى، بل أصبحنا أسرى الكراسي والشاشات. أجسادنا تئن من وطأة السكون، وحياتنا تتراجع يومًا بعد يوم.
تدعم الحياة الحديثة هذا الخمول بكل تفاصيلها: سيارات تنقلنا دون عناء، مصاعد ترفعنا بضغطة زر، ووجبات سريعة جاهزة تصل إلى بيوتنا. أما الجسد، فلم يعد مطلوبًا منه إلا أن يبقى على قيد الحياة. لا عجب إذًا أن ترتفع معدلات السمنة بين الأطفال والمراهقين إلى مستويات مقلقة. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن حوالي 30% من الأطفال و40% من المراهقين في بعض المجتمعات العربية يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، ما ينعكس سلبًا على صحتهم النفسية، ويجعلهم أكثر عرضة للقلق والاكتئاب.
شاهدنا جميعًا مقطع الطفل الذي بكى أمام والده قائلًا: “ودي أترك البيت، ما أدري وين أروح”، وهو يعبر بصدق مؤلم عن اختناق جيل كامل داخل أجسادهم وعاداتهم، حتى شعروا بالغربة في بيوتهم وأنفسهم.
ولا تتوقف المشكلة عند الأطفال، بل تشمل كل الفئات. شباب ورجال ونساء في مقتبل العمر يعانون من أمراض المفاصل، وارتفاع ضغط الدم، والكوليسترول، والسكري. كثيرون يلجؤون إلى عمليات التكميم والتدخلات الطبية، لا لأنهم يرغبون، بل لأن نمط حياتهم خالٍ من الحركة. وبدلًا من أن يكون الجسد شريكًا في الحياة، بات عبئًا يسعى البعض إلى تقليصه، لا إلى تنشيطه.
هذا الركود البدني لا يستنزف الأفراد فقط، بل يرهق المنظومات الصحية ويكلّف الدول مبالغ طائلة تُنفق على علاج أمراض يمكن الوقاية منها بنصف ساعة من النشاط اليومي. هل تعلم أن تكاليف عمليات القلب المفتوح، وعلاج ضغط الدم والكوليسترول، تُقدّر بمليارات سنويًا؟ هذه الأعباء تضرب الاقتصاد، وتترك أثرًا نفسيًا على المرضى الذين يعيشون بين مواعيد الطبيب والدواء.
ومع ذلك، التغيير ممكن. نصف ساعة يوميًا من المشي أو أي نشاط بدني كفيلة بتحسين المزاج وتنشيط الدورة الدموية وتقليل مخاطر الأمراض المزمنة. تقليل وقت الجلوس أمام الشاشات، والالتزام بنظام غذائي متوازن، هو بداية جديدة نحو حياة أكثر صحة.
إلى الآباء والأمهات: كونوا قدوة لأطفالكم. شجعوهم على اللعب، على الركض، على الحياة. فالطفل الذي يتحرك، يفكر ويبدع ويتوازن. وإلى المهتمين بالتخطيط البعيد المدى لسلامة وصحة المجتمع، إن الاستثمار الحقيقي يكون في الإنسان، في جسده وصحته وحيويته. وتوفير المساحات الآمنة للرياضة، كما أنه من الضرورة بمكان بثّ حملات توعوية فاعلة لدفع عجلة حركة الإنسان وضمان صحته فهذا هو الأساس لمجتمع صحي قوي.
العناية بأجسادنا ليست رفاهية، بل مسؤولية الجميع.
إنّ كل حركة نخطوها اليوم هي استثمار في غدٍ أفضل. أجيال تتحرك بثقة ونشاط، لا يقيدها الكسل، ولا تضعفها الأمراض، هي أجيال تصنع الحضارة.
إخيراً عزيزي القارئ ، ماذا ستفعل اليوم لتحرك جسدك؟ هل ستبدأ بالمشي؟ بالابتعاد عن الشاشة ولو لنصف ساعة؟ فلنبدأ الآن، خطوة بخطوة، نحو غد أكثر صحة وقوة. إنّ مستقبل أمتنا لا يُبنى بالأماني والكلمات، بل بالأفعال والحركة. إنّ كل لحظة نقضيها في الكسل، هي لحظة نبتعد فيها عن حياة مليئة بالقوة والعطاء.
فلننهض جميعًا، شبابًا وشابات، رجالًا ونساءً، ولنُعيد لجسدنا حيويته، ولنُحيي أرواحنا بالنشاط . فالحركة ليست رفاهية، بل جسرٌ إلى حياة أطول، وأملٍ أكبر، ومستقبلٍ أبهى.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب