في هذه الحياة، قد تتعثر أقدامنا وتسقط أرواحنا بفعل الذنوب والخطايا. والسقوط، وإن كان موجعًا، إلا أنه لحظة اختبار ووعي، فالإنسان لم يُخلق معصومًا، بل خُلِق ضعيفًا يخطئ ويصيب، يسهو ويستيقظ، يضل ويهتدي. ولولا رحمة الله التي سبقت غضبه، لهلكنا جميعًا.
وإذا تدبرت أسباب السقوط، وجدت أن النفس الأمارة بالسوء، والهوى، ووساوس الشيطان، وصحبة السوء، كلها أبواب تؤدي إلى الانهيار الداخلي. والمدهش أن أعظم السقوطات لا تأتي من أعداء ظاهرين، بل ممن ظنناهم الأقربين إلينا: صديق خان، أو قريب ظلم، أو حبيب غدر. وهنا تتجلى التربية الحقة التي تبني في أعماق الإنسان حصونًا من الصبر والثبات، ليقاوم العواصف إذا اشتدت.
إن الإيمان لا يعني أن نعيش بلا أخطاء، بل أن نعرف طريق العودة حين نخطئ. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾. تأمل هذا النداء الرباني العطوف؛ إنه يفتح باب الأمل ولو كان الذنب بحجم الجبال.
وحين تسقط، لا تبكِ طويلًا على الأرض، بل ابحث عن يد الإيمان التي تنتشلك، وعن نور التوبة الذي يرشدك. إن الكبرياء الذي يمنعك من الاعتراف بخطئك أخطر من الخطأ ذاته. ومهما طال الطريق، فإن الله لا يملّ من انتظار العائدين إليه. وكل سقوط صادق يتبعه نهوض أعظم، بإرادة أقوى وقلب أنقى، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
فلا تيأس أبدًا من نفسك. لا تسمح للذنوب أن تعرّفك أو تحدد قدرك. أنت لست ما وقعت فيه، بل أنت ما تنهض إليه. واحذر أن تؤخر توبتك متعللًا باليأس أو الغرور أو التسويف، فربما لا تتكرر الفرصة، ولا يعلم الأجل إلا الله. اختم حياتك بنور، مهما كانت بداياتك معتمة؛ فالنهاية هي التي تحدد القصة، لا البدايات.
في لحظة ضعف، قد ينكسر الإنسان، وتخور عزيمته، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، وتراوده مشاعر العجز والخذلان حتى يظن أنه بلغ من الهزيمة منتهاها. هنا يتسلط عليه الشيطان، ويوسوس له بأنه قد فشل، وأن لا طريق للرجعة، وأنه أصبح خارج رحمة الله، فتتكدس الأحزان في قلبه حتى يعيش تائهًا في دروب الحيرة واليأس، محاصرًا بوهم الانتهاء وضياع الأمل.
ومع تزايد الشعور بالخذلان، قد يخطئ الإنسان في حق نفسه، يظلمها بالتقصير، أو يقسو عليها باليأس، وقد يخطئ في حق غيره، لا عمدًا ولا تمردًا، بل خضوعًا لانكسار داخلي لم يجد من يحتويه أو يخفف من قسوته. يبدأ الأمر بصغائر الذنوب، التي سرعان ما تتعاظم إذا غاب عنها وازع داخلي أو حضن خارجي دافئ، حتى يجد الإنسان نفسه فريسة سهلة لأربعة أعداء لا يرحمون: الشيطان، والنفس، والدنيا، والهوى.
وتتضاعف الكارثة حين يغيب الدور التربوي في البيت والمدرسة والمجتمع، فلا يجد هذا الإنسان من ينتشله من وهنه، أو يهمس له أن باب الله لا يُغلق، وأن العثرة لا تعني نهاية الطريق. فمن يظن أن التربية مجرد أوامر ونواهٍ قد ضل الطريق، فالمربي الحق هو من يضيء في النفس نورًا قبل أن تظلم، ويربي على الوعي والثقة والمحبة والرجوع، لا على الهروب.
ولا يكون الانكسار دومًا وليد الذنب، فكثيرًا ما يولد من خيبات الأمل وخيانة الثقة وظلم ذوي القربى، ذلك الظلم الذي قال فيه الشاعر:
“وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً .. من وقع الحسام المهند.”
فطعنات القريب أشد ألمًا من طعنات الغريب، إذ تنهار النفس تحت خيبات من كانت تنتظر منهم السند والنور.
وحين تتوالى الطعنات ولا تجد النفس عونًا أو ملجأ، تغرق في وحل اليأس. ومع غياب صوت الحنان والاحتواء، يتحول الخطأ إلى فخٍّ محكم، والزلة إلى انحدار متواصل، حتى يصبح الإنسان سجين ألمه ووحدته، يهرب من نفسه إلى ما يزيده ضياعًا.
ومع كل هذا الظلام، يبقى هناك باب لا يُغلق أبدًا: باب الله، ذلك الباب المفتوح للمذنب قبل التقي، وللضال قبل السالك، وقد قال سبحانه: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾. وما أجمل هذا الوعد الرباني الذي يفيض عفوًا ورحمةً ورجاءً.
علم النفس الحديث يؤكد أن الإنسان لا ينهار من الحزن نفسه، بل من تجاهله وعدم احتوائه. وأن الكلمة الطيبة، أو اللمسة الحانية، أو الحضن الصادق، قد تكون طوق نجاة لقلب يتهاوى. وقد سبق الإسلام علم النفس حين شرع التوبة، وجعل الحسنة تمحو السيئة، وعلّمنا أن الإنسان قد يخطئ، لكنه دائمًا قادر على النهوض والعودة خيرًا مما كان.
وليس العجب أن يخطئ الإنسان، بل العجب أن يُترك في خطئه وحيدًا بلا يد تمتد إليه. فكثير من المآسي والجرائم كانت لتُمنع بكلمة طيبة، أو نصيحة صادقة، أو فهم عميق للنفس البشرية. لكن حين يغيب المربي من البيت، والمعلم من المدرسة، والقدوة من المجتمع، يعلو صوت الشيطان، وتتيه الأرواح في متاهات القسوة والخذلان.
ومع ذلك، ما دام باب الله مفتوحًا، فإن الطريق إلى الإصلاح لا يُغلق أبدًا. رحمة الله ليست للمعصومين فقط، بل لمن أخطأ ورجع وتاب وأصلح. بل وعدنا ربنا بأنه لا يغفر فقط، بل يبدل السيئات حسنات.
ومن رحمة الله بنا أنه ضرب لنا أمثلة حية: قصة الرجل الذي قتل مئة نفس ثم تاب، فغفر الله له برحمته، وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى لجأوا إلى الله بصدق، فتاب عليهم.
والمهم، بل أعظم المهمات، أن تكون صادقًا في توبتك، أن تعود إلى الله بقلب منكسر وعزيمة لا تلتفت إلى الوراء. أن توقن أن الله أرحم بك من نفسك، وأن رحمته وسعت كل شيء. عد إلى الله مهما عظمت ذنوبك. صافح الحياة بقلب أبيض لا يحمل إلا النور. واستمسك بوعده الكريم: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾. فالله لا يضيع مثقال ذرة، ولا يغفل عن دمعة ندم، ولا عن رجفة قلب مشتاق.
اللهم اجعلنا من الرحماء، من الحاضنين، من الساعين لزرع النور قبل أن تغمرنا العتمة. اللهم إنا نعوذ بك من همٍّ يجر الحزن، ومن حزنٍ يورث العجز، ومن عجزٍ يلبس الكسل، ومن كسلٍ يقعدنا عن السير إليك. آمين.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب