كم من فكرة عظيمة ماتت قبل أن تولد؟ وكم من حلمٍ جميل طُمر تحت ركام التأجيل؟ ليس العجز دائمًا في القدرة ولا في الذكاء، بل كثيرًا ما يكمن في ذلك الداء الخفي الذي يزحف على أيامنا دون أن نشعر: التسويف. إنه العدو الذي لا يرفع سلاحًا، بل يسرق منك الوقت والأمل، وأنت تظنه يمنحك الراحة والمهلة. تتكرر العبارات ذاتها: “سأبدأ غدًا”، “حين أكون في مزاج أفضل”، “حين تتوفر الظروف”… لكن هذا الغد لا يأتي أبدًا، وتبقى المشاريع أفكارًا معلقة، والقدرات مدفونة في سبات الانتظار.
فما هو هذا التسويف الذي يعطل الخطى، ويُطفئ العزائم؟ وكيف يتسلل إلى النفس والعقل والروح؟ وما أثره في التربية، وفي النفس، وفي علاقتنا بربّنا؟ هذا ما نحاول أن نفهمه، لا من خلال التنظير، بل عبر الغوص في عمق الظاهرة وفهم خيوطها اللامرئية.
التسويف لا يطرق الأبواب بصوتٍ عالٍ، بل يتسلل خفيفًا، ويتخفى خلف حججٍ تبدو مقنعة في ظاهرها. يبدأ بأن يقنعك أن الوقت غير مناسب، وأنك تستحق قسطًا من الراحة، أو أن الغد سيكون أكثر صفاءً واستعدادًا. لكنه لا يلبث أن يُلقي بك في دوامة من التردد والتأجيل، حتى تستيقظ يومًا وقد فاتك الكثير، دون أن تعرف كيف حدث ذلك. وكأن الأيام نسجت حولك خيوطًا حريرية، لا تشعر بها إلا وقد شلّت خطواتك.
كثير من العقول النابغة لم تُطفأ، بل اختارت أن تنتظر. انتظرت فرصة أفضل، ظرفًا أنسب، دافعًا أقوى. وكأنّ البدايات لا تُكتب إلا حين تكتمل الصورة. غير أن الحياة لا تنتظر اكتمال الصور، بل تمنح الفرص لمن يبدأ، لا لمن يتأمل. فأي عقلٍ يتربى على التسويف يتعلّم ضمنيًّا أن الفعل أمرٌ مؤجَّل، وأن الالتزام عبء لا يُرفع إلا حين تكون الظروف مثالية. وهكذا ينشأ العقل على عادة الانسحاب، لا على مهارة المواجهة.
ولو أُتيح لك أن تُبحر في دواخل من يكثرون التأجيل، لوجدت خلف المماطلة مشاعر غير معلنة: خوف من الفشل، شك في النفس، أو ربما سعيٌ متوتر إلى المثالية. أحدهم لا يبدأ مشروعه لأنه لا يظنه سيخرج كما يتمنى، وآخر لا يُكمل خطته لأنه لا يشعر بالكفاءة الكاملة. فينشغل كلاهما بوهم السيطرة على الظروف، بينما تضيع منهما اللحظة الوحيدة التي كانا يملكانها: الآن.
لكن المدهش أن الفعل، مهما كان صغيرًا، يُحدث تحوّلًا. البدء يُحرّك، ولو بخطوة. الكتابة لسطر واحد قد تفتح شهية الصفحات. ترتيب فكرة واحدة قد يلد مشروعًا كاملاً. التغيير لا يبدأ حين نشعر بأننا أقوياء، بل حين نقرر أن نتحرك رغم ضعفنا. وتلك هي الشجاعة الحقيقية: أن نبدأ ونحن غير متأكدين، أن نسير ونحن لا نرى الطريق كاملًا.
ومن عرف أن لحظاته معدودة، لن يسمح للتسويف أن يسرقها. إن الذين يُؤمنون بأن أعمارهم رسائل قصيرة، يدركون أن كل تأخير هو خيانة للمهمة، وكل تردد هو فرصة هاربة. ليس هناك “غدٌ مضمون”، ولا “وقت مثالي”. لذلك جاءت النصوص التي تحث على المسارعة، لا الانتظار. لا لأن الله يريد استعجالنا، بل لأن الفُرص لا تطرق الباب مرتين. وسرّ النجاة أن تبادر، أن تنهض، أن تُنجز، ولو على قدرك.
حتى الدعاء الذي كان يردده النبي، لم يكن مجرد كلمات: كان استعاذة متكررة من العجز والكسل. لأنهما أصلان لكل تأخير، ولكل خيبة. وما من عمل صالح يكتمل، وما من نهضة تبدأ، إلا حين يُطرد الكسل من الجوارح، ويُستأصل العجز من النية.
ليست العظمة في أن تكتب خطةً بديعة، ولا في أن تتحدث كثيرًا عن مشروعاتك. بل في أن تبدأ. ولو بخطوة متعثّرة، ولو دون ضجيج. الوقت لا ينتظر، والحياة لا تكرم المماطلين. أما الذين يتعلمون أن اللحظة أغلى من الانتظار، فإنهم ينجزون، ولو في صمت. ويصنعون الفرق، ولو دون أن يُعلنوا البدء.
“ليس التأجيل قاتلًا للأعمال فحسب، بل قاتلًا للأرواح أيضًا؛ إذ يمضي العمر ونحن ننتظر لحظة لم تأتِ ولن تأت.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب