مجالس اللهو “ضياع للوقت وآثام ترصد”!!

ما أجمل أن تكون المجالس رياضًا للذكر، ومنارات للفكر، وملاذًا للقلوب المتعبة. ولكن حين تفتقد المجالس روح الذكر، وتُستبدل الحِكم بالحديث عن الناس، تصبح بيئةً مثقلةً بالذنوب، وفقيرةً بالفكر، ومؤذيةً للنفوس. ما يُقال على الهامش، يسمعه الطفل في العمق، وما يُظن أنه تسلية للكبار، يُصبح تربيةً خفية للصغار. الغيبة ليست مجرد زلّة لسان، بل انحدار أخلاقي، وهشاشة نفسية، وفقر تربوي. وإن لم نُراجع أنفسنا ونملأ مجالسنا بما يُرضي الله، فإننا نزرع في عقول أبنائنا بذور السطحية، وفي قلوبهم اعتياد الإساءة، وفي صحائفنا أوزارًا تُثقِل الموازين.

إن انتشار الغيبة في أوساط المجالس والاستراحات ليس نابعًا فقط من ضعف الإيمان، بل من خواء معرفي وفكري عميق. 

فلا حكاية تُروى، ولا فكرة تُناقَش، ولا معنى يُستَخلص. فقط حديث متكرر عن الناس، ونقاشات عقيمة حول عيوبهم. 

أولئك المتحدثون لا يملكون القدرة على طرح قصة ذات مغزى أو فكرة تُسهم في النمو الفكري لمن حولهم. والمشكلة لا تقف عند هذا الحد؛ فالأطفال الذين يحضرون هذه المجالس يتلقّون تربية سلبية دون أن يشعر أحد. يُزرع فيهم بصمتٍ فن الهمز واللمز، ويكبرون وهم يرون الحديث عن الناس عادة اجتماعية مستباحة لا حرج فيها.

ومن منظورٍ نفسي رصين، فإن الميل المستمر لتتبّع أخبار الآخرين والحديث عنهم قد يكون محاولة غير واعية لتعويض نقص داخلي أو شعور بالدونية. فالشخص الذي يعجز عن البناء الداخلي يلجأ إلى الهدم الخارجي، وكأنه يُرمم هشاشته النفسية عبر انتقاص غيره. لذا فإن الغيبة في حقيقتها ليست فقط خطيئة دينية، بل سلوك انعكاسي يشير إلى احتياجات داخلية لم تُلبَّ، وضعف في تقدير الذات، وغياب للسلام الداخلي.

وكلما طالت المجالس، طال معها الإثم؛ تكرار ممل، ونقاشات فارغة، وحسنات تُقدَّم للمغتابين على طبق من ذهب. بينما يغيب عن تلك المجالس حديثٌ نبوي أو قصة نافعة أو فكرة بناءة تنفع العقل وتُزكّي الروح. ويقول الله تعالى مشدداً على جُرم الغيبة بإعتبارها خطيئة عظيمة (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ عندما عرج به قال: “مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.”

فلنجعل من مجالسنا محاضن للنور، تُذكّرنا بالله، وتوقظ فينا الضمائر، وتُعلّم أبناءنا أن الكلمة مسؤولية، وأن الحديث عن الناس وتتبع عوراتهم وعيوبهم أمر محرم ، لنزرع في نفوسهم أن اللسان أمانة، وأن الحكمة أجمل ما يُقال، وأن تسليط الضوء على عيوب الذات خيرٌ من تتبّع زلّات الآخرين. فالمجالس التي تُباركها الملائكة، وتعلو فيها القيم، لا تُبنى إلا على طيب الكلام، وسلامة الصدر، وحُسن المقصد.

نوار بن دهري

NawarDehri@gmail.com

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “مجالس اللهو “ضياع للوقت وآثام ترصد”!!

نفاع بن مهنا بن ماضي الصحفي

جزاك الله جنة و نعيما مقيما
و أصبت كبد الحقيقة الكارثية و هي أن الغيبة جرم و يضاف عليه جريمة أخرى و هي أن الصغار يتعلمونها منا فنكون وقعنا في كبيرتين من كبائر الذنوب و ليس كبيرة واحدة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *