تمضي الأيام سريعًا، ونحن ركابها كمن في دوامة لا تنتهي، نعيش بين صخب الحياة وهمومها، نركض بلا هدى، نلهث وراء تفاصيل صغيرة، ونغفل عن الهدف الذي أراده الله لنا. كل محاولة للاستيقاظ تُقذف بنا مرة أخرى إلى مكاننا القديم، وكأننا لا ندرك أن الموت أقرب إلينا من أنفاسنا، وأن العمر يمضي كقطار لا ينتظر الركاب الغافلين.
الموت ليس فناءً، بل لحظة مواجهة كبرى: مواجهة مع النفس، ومع الله. والمؤمن لا يخاف الموت ذاته، لكنه يخشى أن يرحل بلا إجابة عن أسئلة المصير التي حدّدها النبي ﷺ:
«لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه».
وأستذكر قوله تعالى:
“وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى” [النجم:39]، فتزداد الصرخة داخلي، وتغمر قلبي موجة ألم ووعي: كل لحظة غفلة ضاعت، وكل حلم لم يُترجم إلى عمل صادق هو خسارة لا تُعوَّض.
حين أفكر في سؤالي لله يوم ألقاه، أرتجف:
كيف سأقف بين يديه وأنا مثقل بما ألهاني؟
هل أقول له: “قضيت عمري بين الأغاني والأفلام والدراسة والعمل، ولم أعرفك حق المعرفة؟ وعندما أردت العودة كان قطار العمر قد مضى، وإذا بي في دوامة غفلة لا أخرج منها؟”
أي جواب يليق بعظمة الله؟!
لكن رحمة الله تسبق غضبه، وبابه مفتوح للتائبين. ما زالت الفرصة قائمة ما دام في العمر بقية. وهنا أصرخ من أعماقي، وأعيد التكرار لأن فيه قوة لا توصف:
لا أريد أن أموت… قبل أن أعرف من أنا، وما هو هدفي ورسالة حياتي، فأعمل على تحقيقها بكل ما أوتيت من قوة.
لا أريد أن أموت… قبل أن أرى أثري مرسومًا في الوجود، وطريقي منقوشًا بالخير.
لا أريد أن أموت… قبل أن أسمو على ذاتي المتمردة، فأخضعها للحق، وأغتسل بدموع التوبة التي تمحو كل ذنوبي وتطهّر قلبي.
لا أريد أن أموت… قبل أن أمد يدي بالعطاء لكل محروم ومكلوم، وأزرع الأمل في قلوبهم، وأرسم البسمة على وجوههم.
لا أريد أن أموت… قبل أن أخرج أقصى إمكاناتي ومواهبي التي منحني الله، وأسخّرها في طاعته وخدمة خلقه، فأكون مأجورًا بالنية والعمل معًا.
لا أريد أن أموت… قبل أن أستشعر في قلبي رضوان الله، وأذوق حلاوة قربه، فأموت حيًّا بالإيمان، لا غارقًا في الغفلة.
الحياة ليست بعدد السنين، بل بما نزرع فيها من معنى، وطاعة، وعطاء، وانتصار على النفس. النجاح الحقيقي هو الخروج من دوامة الغفلة إلى نور الطاعة. هو أن أواجه الله وقد جاهدت، وأن أقول:
“يا رب، أخطأت وقصّرت، لكنني عدت إليك بصدق، وعلّقت أملي برحمتك لا بعملي”.
فلنجعل كل لحظة في حياتنا جسرًا نحو الله، وكل عمل صالح نورًا في طريقنا. لا ننتظر الغد، ولا نؤجل الخير، فكل ثانية تمر لن تعود. لنغسل قلوبنا بدموع التوبة، ونقوّي إرادتنا بالعمل الصادق، ونمد أيدينا بالعطاء لكل محتاج ومكلوم.
حينها فقط نشعر بالحياة الحقيقية، ونستشعر رضوان الله، ونمضي في رحلتنا بخطى واثقة نحو الهدف الذي أراده لنا، محققين رسالتنا، صادقين مع أنفسنا، منتصرين على الغفلة، حامدين لله على كل لحظة وهبنا إياها.
نوار بن دهري
NawarDehri@gmail.com
مقالات سابقة للكاتب