“جلد الذات” مصطلح عصري مستحدث قد يحتمل معنيين أو أكثر ، المعنى الأول معنى فلسفي يأتي في سياق الذم والقدح ويستعمله البعض في عصرنا هذا – الذي انقلبت فيه المفاهيم – ، نعم تستعمل كثير من المصطلحات المستحدثة الفلسفية المعقدة في زمن راجت فيه سوق المظاهر والكلام المنمق المزخرف حتى ولو كان باطلاً ، زمن نرى فيه التجني على الحقيقة وعدم الإعتراف بالخطأ ، زمن أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً بالمعنى العكسي .. نسأل الله أن يصلح الحال ويردنا الى خير مآل .
والمعنى الثاني معنى عقائدي وهذا المعنى محمود أي بمعنى محاسبة النفس ولومها وكبح جماحها عن التمادي في الذنوب والآثام والأخطاء ، كما في تقسيم النفوس الى ثلاثة أقسام :
1- نفس أمارة
2 -نفس لوامة
3 – نفس مطمئنة
وجلد الذات يأخذ معنى النفس اللوامة التي تلوم صاحبها عند فعل الذنوب والأخطاء ، وهذه النفس قد يصير أمرها إلى خير بحسب نية صاحبها لتصل أخيراً لمرتبة النفس المطمئنة وهي أعلى المراتب الثلاث ، وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجلدون ذواتهم كما كان يفعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؛ حينما كان يحمل قربة ويستقي بها الماء وهو أمير المؤمنين ، فلما سئل قال نازعتني نفسي وقالت لي أنت أمير المؤمنين فأردت أن أعلمها الأدب .. أليس هذا الفعل جلد للذات ؟ .
وكان الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو أمير على المدائن إذا نظر إليه الناس حسبوه من الفقراء وعامة الناس ، وكان يصنع المكاتل ويبيعها ليكسب قوت يومه ، أليس هذا جلد للذات ؟.
الزهد في الدنيا جلد للذات .. قيام الليل حتى تتفطر الأقدام جلد للذات .. الصبر عن الشهوات جلد للذات .. أم أننا أصبحنا نرى كل هذه الفضائل من السلبيات التي يجب على المرء الإبتعاد عنها، فيجب على كل مسلم يرجو ما عند الله والدار الآخرة أن يجلد ذاته ، فالجنة حفت بالمكاره ، والنار حفت بالشهوات – أجارني الله وإياكم منها – .
إذاً لماذا عندما يحاسب المرء نفسه المقصرة ويعتصره الألم ويغشاه الندم لكثرة ذنوبه وآثامة ويجبر نفسه على لزوم الإستغفار والإنغماس في الطاعات يُعيّر بأنه يجلد ذاته ؟! ، نعم هو يجلدها اليوم لكي ترتاح غداً وما قال من قال هذه العبارة على سبيل الذم إلا من أجل حب الدنيا وزخرفها والبذخ والخوف من فقدان الإمتيازات فيها وبأي صورة كانت ، وتدليل النفس حتى لقد ظن البعض أن ليست لديهم ذنوب وآثام ، والمرء مهما بلغ من التقوى لا يخلو أبداً من الذنوب لأن الله يقول في الحديث القدسي ( ياعبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم ) .. فهل يستطيع إنسان أن يتنصل من عبودية الله حتى يخرج نفسه من هذا الحديث ؟ ، إلا إذا كان قد أوتي صك كـ صكوك الغفران في العصور الوسطى – نعوذ بالله من الخذلان -.
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، قال كل ابن آدم ولم يستثني أحداً ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لن يَدخُل أحدٌ الجنةَ بعمله) ، ولما سُئل ولا حتى أنت يارسول الله ؟ قال ولا حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته .
الإعتراف بالذنب من الفضائل ، جلد الذات من الفضائل ، حتى ولو أبى البعض هذه الحقيقة ، فالحق لا يتغير بحسب أهواء الناس ..
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً ، وبصرنا بعيوبنا ، وأغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ياكريم.. وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب