الشهباء

أقسم بالله دون أن أكذب كثيراً بأني أحب الكتابة وأكرهها في نفس الوقت ، تارة أكتب حزناً فأسمع نحيب حروفي العتيقة ، فتحاول القصاص مني وتلاحقني كأنها أمة بني العباس وكأني الوريث الأموي الأعزل ابن الداخل الطريد الفريد .

وتارة أكتب غزلاً في ثنايا حروفي الرقيقة ، فأراها تتمايل فرحاً على آلة الناي الحزينة ، فتلتصق بي وتغلو في حبي ، فتقوم حروفي بدور الشيعة وتدعوني بالشهيد .

طال بي الحال ، وأردت أن أتخلص من طوباويتي فوضاويتي دفتر مذكراتي وكل عاداتي ومواعيدي ، قهوتي عطري الفواح ملابسي المقلدة ، فقررت أن أمارس سكوني في سكون ، وأنسب مكان لهذا هو معرض الكتاب ، دخلت المعرض وأنا مفعم بكل هذا الثقل ، مجتازاً طوابير روايات الهنوف ، مرتدياً زي الجيش متجولاً بين ثكنات الرفوف ، نال مني التعب وما أن تعمقت بالمعرض دهشت لما رأيت ، فهنا دار الأحرار للنشر ، وهنالك دار الدواعش والفرس والروم والبعثيين للنشر مجتمعين في دار واحد بالإنابة ، ويرادفهم دار العثمانيين ومعاونيهم للنشر ، والأدهى من ذلك بين تلك الدور الأضداد برزخ لا يبغي أحدهم على الآخر ، والغريب أن هدف الجميع دار صغيرة ليست مدرجة ضمن أولويات المعرض ، إنها دار حلب الشهباء للتصوير ، شدني الاسم وأنا شخص أعشق الفن السريالي الذي يقوم بتصوير الخيال ويستحضره ، ازددت شوقا وركضت مسرعاً نحو الدار فلما اقتربت جحظت عيناي لما رأت :

سماءً تمطر حمماً بركانية ، وأرضاً لا أساطين لقلاعها صنعت من أنقاضها مآذنها ومن جثث البشر موائدها ، هنا أصبح الخيال واقعاً وأصبحت الصورة فاضحة ، تقدمت أكثر لأرى زوجين مسنين ومعهم حفيدهم عالقين بين الأنقاض يلوحون ويصرخون أنقذنا ، تقدمت إليهم وأنا محبط لا أملك شيئاً وقلت مهلاً : أنا لست بالمعتصم ولست بصلاح الدين أو حتى مولود ميتر قاتل السفير ، أنا لست سوى عابر ، أنعزل عن عزلتي وأهيم في ذهول عند سماع قرع الطبول وهتافات الجيوش ، وبخصوص الزي فنحن نرتديه في مجتمعنا للزينة ، أما أنا فأرتديه أحياناً لكلا النيتين ، وأقصى ما أفعله في حياتي هو أن أكتب مقالة من حرفين تعجب البعض ولا تروق للبعض الآخر.

فأقدمت وسألت الزوج الذي كان يظهر عليه العلم والوقار ، مم تشكو يا أبتي ؟

قال : لا شيء سوى حنين فاخر .. مطلي بأنين ساخر .

ثم سألني قائلاً : ما حكم أن يقتل الرجل أهله خوفاً على عرضه ؟

كلمات حركت فيني نزق الثوار واجتاحتني كالاعصار فتمالكت نفسي رغماً عن نفسي لأننا مقيدون بضوابط من اجتازها مصيره النار ، وأنا أتفق كثيراً مع هذه الضوابط لتشابه الدور واختلاف الأدوار ، فقلت له يا طهر حلب :  ( حاء حلب ) حنين حميم ،  و ( لامها ) ليل لئيم ، و ( باؤها ) بئر بهيم ،  ولن أجيبك بأكثر من ذلك لأنك تعلم الجواب ، لكن اسمح لي أن أقدم لك نصيحة يا أبتي ، هي أن تحتضر ولا تنتظر ، فالابتسام والاحتضار عملتان لقلب واحد ، فأنا مثلاً أحتضر كل يوم ، لأن اليوم الذي لا أحتضر فيه لا أبتسم وبالتالي سأموت حياً .

فالاحتضار كفكرة صالة انتظار لكل الحالمين بالرحيل وهم في مقاعدهم ، الاحتضار بأسره عبارة عن رعشة مطر قشعريرة فرح ، احتضر يا أبتي واستعد شريط حياتك في ثواني ، تذكر فيها أول وردة قطفتها ، أول طفل قبلته وآخر ابن زوجته ، كيف كنت تمازح جارك وتسابق أحلامك وكيف ترتل ابتهالاتك ، احتضر لترتاح من فراق الأحبة وأبد العناء ، وصر هذين البيتين في خلدك وتحت مخدتك ( ليتسليان بك ) ، يقول الجواهري :
في ذمة الله ما ألقى وما أجد * أهذه صخرة أم هذه كبد

قد يقتل الحب من أحبابه بعدوا * عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا

وكان بجوارنا زوجته تلك الأم الحنون بكامل عفتها ، وكانت تمسك بيدها اليمنى حفيدها وباليد اليسرى تمسح دمعها جراء ما فعلت بها تأوهات السنين ، فتنهدت هي قائلة : ( ليش هالتشاؤم يا ابني )!!

أماه أيها الصولجان الرقيق ، أعلم بأن ليلك سحيق ، وأعلم أن أعضاءك متناثرة كالعهن المنفوش ، وأعلم أنك تجمعينها لتتظاهري بأنك جبل راسخ ، فاعذريني يا أماه فنحن عودنا في أمتنا على التشاؤم فهو داءنا ودواؤنا ، حتى أصبحنا نتفاءل بتشاؤمنا .

يقول محمود درويش ( لا تطلبوا مني أن أرسم قوس قزح وحبري أسود ) .

فتوجهت إلى الطفل الصغير وقلت له : أطلب أي شيء تريده وسألبيه لك في الحال ؟

فرد قائلاً : ( الموت خدا أهلي بدياك تئتلوا وتريحنا منو ).

فمضيت مكسوراً خانعاً شريد الذهن أردد مطلع قصيدة للشاعر الأديب أحمد مطر يقول فيها :

آه لو ترى حلبا ** فحق الطفل قد سلبا

وعرض فتاة يغتصبا ** ونصف الشعب في المهجر

فحاولت أن أجاري القصيدة مرتجلاً ، فتناجزت حروفي وأكملت قائلاً :

صغيري أرجوك لا تكبر 

ففي القصور سكنانا ** وزعم القلق فحوانا

حتى منابرنا بلا منبر
فالعاديات لم تعد ضبحا ** والموريات لم تعد قدحا

وليلنا غدا صبحا ** وصبحنا أحلى من السكر

فلا تناغينا ** ولا تناجينا
فأحضان الغرب تأسرنا ** تنادينا تدارينا

وبالأسحار تردينا
وأرضنا بالثوار لم تعد تزخر
فهمت الآن يا ولدي لماذا قلت :
لا تكبرر !!

ها أنا على وشك الرحيل واذا بي أسمع صوتاً زلزلني وتصدعت منه جدران الدور ، واذا بحلب ثائرة تصدح بأبيات من الشعر لغازي القصيبي بصوت ارتجفت له الأرض :

لا تهيىء كفني مامت بعد ** لم يزل في أضلعي برق ورعد

أنا تاريخي ألا تعرفه ** خالد ينبض في روحي وسعد

أنا من استعمرني الهيلينيون بقيادة الاسكندر ، واجتاحني الروم بكنائسهم ،

أنا من هدم هولاكو آخر قلاعها ، وأعتى أسوارها ، أنا من اغتالني الفرنسيون ؟

ألا ترى بأني أنا المنتصر الأبدي عبر الزمان ، ألم تعلم بأني أرض المحشر والمنشر ،

ألم تقرأ قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( إن الله قد تكفل لي بالشام ) .

الساعة العاشرة والمعرض انتهى وقته ، حينها كنت أردد في نفسي لقد تكفل بهم الجبار لقد تكفل بهم الجبار ،  وكان ذلك هو اليوم الوحيد الذي لم أحتضر ولم أبتسم فيه من شدة الفرح ، فخرجت مسرعاً متفائلاً لا أحمل من ضوضائي ومن حروفي المتناقضة التي أرهقتني ، سوى ثلاثة أحرف ( الألف – اللام – الميم ) ، صنعت منها ( ألم ) يعتصره ( أمل ).

 

مشهور عبدالعزيز الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

14 تعليق على “الشهباء

كاتب حرف

نحن لا نكتب لأننا نحب الكتابة أو نكرهها إننا نكتب
حتى لا تحترق الأوراق من جفاف المشاعر فدموع
الورقة من محابر أقلامنا

فقد ماتت أفكارنا عندما ماتت مشاعرنا فأكرام الميت
دفنه ولو كان بين السطور

تقبل إعجابي بمقالك

محمد الصحفي

مشروع كاتب من جيل المبدعين
أسلوبك رائع استمر وفقك الله ورعاك

اسامة عثمان

مقال جدا رائع
الله يوفقك يا مشهور

عبدالله

لا عاد تبطي علينا يا مشهور ،،، موفق ان شا الله

عابد بن بريك

موفق بإذن الله أستمر فلك مستقبل كبير يبشر بالخير أسلوبك مميز و رائع أتمنى لك التوفيق

ابوعاصم

مبدع ! كاتب من فئة خمسة نجوم . خلاص قررت أكسر قلمي !

محمد الرايقي

تراقص بالحروف وتلاعب بالكلمات
اظهرت لنا أن خلف هذه المقطوعة قائد اوركسترا مبدع
راق لي ماكتبت كثيرا
واسعد أكثر بقراءة المزيد من هذا الجمال

أبوأنس

أهلا بك يا مشهور يا صاحب الميمات الخمسة (5m’s) :)
مشهور
مبدع
متميز
مدهش
ممتع

لا جديد .. منبع إبداع لا ينضب وتألق لا يخبو وعزف لا يخفت

مشهور عبدالعزيز

شكرا للجميع …
كاتب حرف ؛ هنيئا للحروف التي تلامسها أناملك ، وشرف لي أن أحظى بقارىء مثلك ، واسمح لي ، لي حرية التعبير ولك حرية التفسير ، مع خالص الود أيها الرائع
محمد الصحفي ، أسامه عثمان ، عبدالله ؛ شكرا من القلب لكم وان شاء الله نكون عند حسن الظن ..

حلم رمادي

حلب وأي وجع تحكي
وأي آلالام لاتنتهي
وأي شهيد بل وأي شهداء زُفت للسماء أرواحهم تباعاً
حلب تلك القطعة في جسد عروبتنا
تنتحب
وتصرخ
وتستغيث

لكن سهام الليل لاتخطيء..
فاللهم عجل لهم بنصرگ عاجلاً غير آجل ..

ابو محمد

كثر ما قرأت من مقالات من أسماء كبيره بالأعلام
ما قرأت مثله بالبلاغة وقوة الحجه ورسم الخيال
اجتمعت مجملها

حتى اني اقرأ ابيات الشعر وألحنها لوحدي من وزنة ابياتها

الى الامام ولا تحرمنا من علمك يا مشهور

نويفعة الصحفي

السلام عليكم ورحمة الله
الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات ..
لا أدري كيف لي بالحديث عن إبداع فاق فكري ، مقال يحدثك الحرف فيه ،ويسلب منك كل الفكر ، لتعيش بين السطور ، فتجد نفسك كلما انتهيت من القراءة تعود من جديد ..
تجد نفسك تعيش جمال اخاذ ..
نعم به من الألم ما يعتصر القلوب ، ويبكي العيون ، وتسمع معه انين الصدور عليك يا حلب .. الإ انه في ذات الوقت جعلني اقف وقفة صمت ذبلت معه الأنامل ، ووقف القلم ، واستعصت علي الكلمة ، بل الحرف ، وأصبح العقل حائرا .. أمام هذا الإبداع ..
اخي مشهور لك اوجه حديثي.. فأسمح لي أن اسجل أعجابي بما كتبت حرفا ومعنىً وفنا وبلاغة .
لله درك يا مشهور .. أنت قامة فكرية حرفية مبدعة تشق طريقها بثقة ، تفرض علينا أن نحييها .
فهنيئا لديرتي بابنها ،هنيئا للقراء في كل مكان هنيئا لهذا المنبر الإعلامي الكبير الذي يتألق في كل يوم لنعيش معه فنون الإبداع بمثلك يا مشهور وفقك الله استمر ومثلك يجب ان يستمر ..
.شكرا لكم أ. أحمد على جمال الانتقاء ..

مفلح الصاطي

مشهور شهر قلمه فتارة هو سيف يجمع الحروف ويصبها في قالب حاد ليقتص من زفراته وأوجاعه ، وتارة يخرج قلمه فيسيل نبعا نميرا صافيا كأني به بارد شرابه لذيذ

تعمقت في حلب وما أدراك ما حلب ؟! أهي حضارة مُسحت عن الأرض أم هي أمة مُسخت فلا أرض ولا عرض

مقالك مميز وجميل بجمالك يا مشهور ، هنيئا لغران بك فبمثلك تفتخر غران والمحافظة كلها

استمر على هذا المنوال وفقك الله لكل خير،،،،

غير معروف

جميل جد يا مشهور أحلى من اللؤلؤ المنثور مقال أروع من الرائع وكلمات ليست كالكلمات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *