عندما يأذن الله القادر بولادة أحد من بني البشر ، يتكون نطفة من ماء مهين ثم يكون علقة فمضغة .. قطعة من دم هناك في زاوية مظلمة في الرحم ثم يتكون شيئاً فشيئاً خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث ، فإذا به إنساناً سوياً في ظلمة بطن أمه يمكث ما شاء الله له أن يمكث ثم إذا حانت ساعة خروجه إلى عالم النور بإذن خالقه ، خرج باكياً صارخاً وكأنها صرخة احتجاج وتمرد وربما ثورة ضد من سلبه مكاناً قد ألفه تسعة أشهر ويعتبره وطناً له حتى وأن كان مظلماً فهو يظل وطناً يأبى أن يسلبه اياه أحد .
خرج قابضاً يده كأنه متمسك ببقايا تراب وطن معنوي قد فقده من لحظات ، مغمض العينين ناكساً رأسه يخشى أن لا يعجبه هذا الوطن الجديد وهكذا هي النفس البشرية بل كل المخلوقات تأبى أن ينازعها أحد ويسلبها حريتها وما اعتادت عليه ، نعم وفد إلى عالم جديد لا يدري كنهه ولا منعطفاته وتعرجاته …
ولأن الجوع يفقد الانسان توازنه أخذ هذا الوافد الغريب يبحث عن طعامه ويتحسس كل تضاريس جسد أمه ، فهل حقاً بدأت صراعات البحث عن لقمة العيش التي طالما خاض الناس من أجلها الحروب منذ أن وطأت أقدامهم هذه الأرض ، نعم أيها الصغير الملهم ها هنا طعامك فالتقمه ولتعلم أن الحصول عليه يحتاج إلى مجاهدة وبحث ..
أيها المتعب الصغير لقد قدمت إلى عالم قل فيه الرحماء من بني جنسك سوى هذه التي سكنت في جوفها المدة التي مكثتها تتغذى بحبل سري لا يحتاج إلى بحث أو عناء ، أيها الوافد الصغير أنت قدمت إلى عالم غير عالمك الذي ألفته عالم لا يعترف إلا بالنهوض والمجالدة لتوفير لقمة العيش، فمرحبا بك في عالم الكد والكبد….
ولقد وقفت ملياً أتأمل آيات خلق الأنسان في سورة المؤمنون :- ( (11) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، ثم إنكم بعد ذلك لميتون ، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) ..
نعم ألم تلاحظوا كيف طوى القرآن مسيرة العمر طياً ، فما أن بدأ خلق الإنسان حتى طواه إلى الموت ، وكأن ما بين الحياة إلى الممات ليس بذات أهمية .. وكأن الأنسان كذلك لم يخلقه الله إلا لمسيرة حياة قصيرة لا يجدر بها إلا لتملأ الفراغ بين الحياة وحتى الممات بالعبادة ، لأن المسير قصير لا يحتمل عناء هم الرزق فما أنت الإ مخلوق للموت لتصل وبسرعة البرق إلى دار الخلود الحقيقي.
فالأحقاد والمهاترات والحزازات تصبح كلها لا قيمة لها ولا طائل منها ولا بذات أهمية ما دامت الحياة بهذا القصر.
فها هو الوافد الذي وفد منذ لحظات – وأقول لحظات لأنها كلمة دقيقة ، فما حساب عمر الإنسان مهما طال بجانب عمر الكون، فبين قوله (فتبارك الله أحسن الخالقين) وقوله (ثم انكم بعد ذلك لميتون) وشريط العمر بكل مافيه من أحداث وتفاصيل – ها هو يترك ما جاء قابضاً عليه بيديه يبسطها مؤذناً بأن كل ما جمعه في مسيرة حياته إنما هو لوارث ورحل صفر اليدين …
الله أكبر .. نعم يوضع جنازة أمام الناس ويرفع المصلون عليه أكفهم بأن الله أكبر .. حقا هنا يدرك (من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد) أن العبادة والخضوع لله هي الغاية التي خلق لأجلها وهي التجارة الوحيدة الرابحة في كل هذه الاحداث … وانتهت مسيرة العمر .
إبراهيم يحيى أبو ليلى
للإطلاع على المقالات السابقة للكاتب … اضغط هنا
مقالات سابقة للكاتب