وقفت أمامه وهو في جلسته الأبدية .. شارد الذهن .. داعبت مخيلته ذكرى ليلة قمراء أرسل فيها البدر خيوط ضوئه الساطح فانعكس على صفحة الرمال ليوهم بسطح مائي .. هل ستكشف عن ساقيها الرخاميتين مخافة بلل جِلْبابها الأزرق اليتيم .. لا لم تفعلها لأنها أدمنت رؤية الجمال المتجسد في هذا المشهد الآسر كلما أعلن البدر عن اكتماله الذي يضاهي جمال وجهها الجذاب .. نسيم عليلٌ يداعب خديها ليقفل راجعاً إلى خديه حاملاً دفء أنوثتها ونعومتها التي ألفها منذ زمن بعيد ..
كانت فتِيّةً كمهرةٍ جامحة أعيت خيالها عن ترويضها .. بيضاء البشرة .. دقيقة الملامح .. أرهقت ابتسامتها وجهها الذي أبت أن تفارقه والتي خُيل إليه أن وجهها لن يُعرَف إن غادرته .. أعيا شعرها كتفيها كثافةً .. إنسدل متمرداً على غطائه الفيروزي مُشرئباً من تحته ليعلن عن سوادٍ فاحمٍ فتكتمل تلك اللوحة الفاتنة .. لم يكن حينها يعي حجم مقدراتها المظهرية أو الجوهرية فقد كان يافعاً غضاً .. أدرك لاحقاً أنها سهلة معقدة .. ضعيفة قوية .. فاتنة حد الشِرْك .. كانت تدير رؤوس الكثيرين كلما رافقها في طريقها إلى السوق أو لأي مكانٍ آخر .. كانت تنهشه الغيرة رغم حداثة سنه وجهله التام بالنساء .. كما أدرك تماماً سر مجاملات من حولها .. الباعة .. صاحب المركبة التى تغلها أينما ذهبت .. العجوز البخيل صاحب الحانوت الذي لا يرى ابتسامته الصفراء الباهتة إلا عندما يراها .. كان مدركاً تماماً أن جمالها الفتان هو جواز مرورها لقلوب كل هؤلاء .. وأن ابتسامتها الساحرة التي تملأ وجهها اشراقاً بمثابة فأل حسن يتفيأُ ظلالها كل يائس ..
اتضح له عندما بلغ من عمره السادسة عشر سر تعدد آبائه .. فقد كان بين كل زيجة وأخرى يخطب ودها عريساً جديداً .. كثيراً ما أحس بتعاستها التي تحاول إخفائها وتكشف عنها عيناها الجميلتان عندما يعقد والدها قرآنها على خاطب جديد .. أدرك لاحقاً أن الرابط الوحيد هو ما يغدقه كل هؤلاء الرجال من مال على والدها ذاك الطماع العربيد الذي يعاقر الخمر ليلاً ونهاراً والذي درج على ابتزاز أزواجها الذين لا يجدون حلا لوضع حد لطمعه سوى الإنفصال عنها .. كان جمالها لعنة ترافقها أينما حلَّت وكثيراً ما تراءى له أنه السبب الرئيس في تعاستها .. كانت وما تزال الأنثى الوحيدة والمتفردة شكلاً وموضوعاً في حياته .. أحبها حد الجنون .. هام بها .. تمنى كثيراً إسعادها لكن هيهات فقد وقفت إعاقته الجسدية حائلاً دون ذلك فقد أصابه شلل نصفي إثر حادث وهو بالعشرين من عمره ..برغم ذلك ظل قلبه ينبض بها ويحيا بها وعليها .. كثيراً ما زرف دموعه خِفْية أمام عجزه عن مساعدتها خاصة عندما انفصلت عن آخر عريس وأصبح عليها تأمين المال لحياتهما معاً .. لم يعد يرافقها كما في السابق حتى لا يكون عبئاً عليها في تأدية عملها كعاملة نظافة بإحدى المسشفيات .. حملت وتحمل همه وهو في عقده الرابع يذوب أساً عليها .. دفعت ضريبة جمالها ونقاء روحها وجشع والدها من عمرها ..
أخرجه من شروده يدها المعروقة الممدودة بكوبٍ من الحليب درجت على تقديمه له قبل خروجها للعمل باكراً .. نظر إلى وجهها المتغضن متناسياً ما تركه الزمن من خطوط بؤسٍ وشقاء ومتأملاً جمال هذه الستينية محدِّثاً نفسه : ( لكم انتِ رائعة ياأمي ) ..
قبس الحربي