إن في خلق الله سبحانه وتعالى لعجبٌ إذا تأملنا كل صنع الله بعين البصر والبصيرة معًا، فالتفكر في الأمور بعين البصر فقط دون إشراك البصيرة لا تكون نتائج هذا التّفكّر سليمة، ولكن في المقابل فإن التفكر بالبصيرة فقط يُعطي نتائج سليمة إذا زالت الغشاة عن العقل وكان التفكر مجردًا من أهواء النفس، فكم من فقد بصره؛ يأتي بما لا يأتي به من فقد بصيرته في حين أن بصره سليم معافى.
والعقل هو الأداة التي خلقها الله ومنحها للثّقلين دون بقية الخلائق، لذلك فهما من يُحاسَب يوم القيامة على أنهما مكلفين عاقلين لأن الله تعالى يقول في محكم التنزيل ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ وقد وضع الله الشرائع والأحكام، ثم أعطى الثّقلين ميزة العقل ليختار المكلف منهما أحد الطريقين فقد قال الله ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ بعد تكريمه بالعقل، ولذلك فإن غياب العقل بصورة متعمدة يعد جريمة يعاقب عليها من يقوم بإهانة هذه النعمة وهي إحدى الضرورات الخمس التي حماها الله من التعدي عليها.
ولقد قسم الله العقول كما قسم الأرزاق، فهناك من العقول التي مُنِحت لبعض بني البشر، أو فلنقل للثّقلين لأن إبليس قد منحه الله العقل والإدراك فاستخدمه في الشر والإيذاء، لا تجيد غير الإيذاء وهذا بحد ذاته يعد إهانة للعقل.
ومن صور إهانة العقل كذلك أن يعبد المرء غير الله، فهل هناك إهانة أكبر من أن يعبد المخلوقُ مخلوقًا يكون أدنى منه في المرتبة؟ كعبادة البقر والحجر والشجر، بل حتى الفئران والددود، وكل ما يخاف منه كالشلالات والأنهار وهدير الأمواج في البحار التي خلقت لخدمة بني الإنسان.
غير هذا المخلوق تلك النعم وحولها عن مسيرها التي خلقت لأجله ومنفعته، وأخذ في إنشاء معابد تتلى فيها القدسات، وتقدم النذور لهذه الجمادات والحيوانات، وقد رأينا كل ذلك، فهل هناك أقبح من هكذا عقول؟
ومن صور إهانة العقل كذلك؛ مَن استخدم عقله وذكاءه في افتعال الحروب، والتسبّب في المجاعات والكوارث والأمراض المستعصية في العالم، لا لشيء سوى المصلحة الشخصية، والجشع وأمور مادية صرفة، وكذلك تفجير وانشطار الذرة، ومن المعلوم أنها في الأساس نِعَم قد وضعها الله لصالح الإنسان وسعادته ورقيه، ولكن هذا المخلوق العجيب قد عكس كل شيء، ثم أخذ يشتكي مما صنعت يداه من آثام وفظائع، فقد قال الله تعالى ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾ وإلا ما الحكمة من إشعال حربين عالميتين راح ضحيتهما أكثر من سبعين مليون إنسان، ثم يتباكى كلٌّ على قتلاه وعلى الفظائع التي تسببوا فها بأنفسهم!
والقرآن الكريم قد حكى لنا كذلك عن الأمم السابقة وعن مصيرهم حين حادوا عن الطريق التي رسمه الله لهم، وفي المقابل فإن هناك من استعمل هذا العقل بالطرق السليمة، ابتكر كل ما يخدم الإنسان ورقيه وراحته كما ينبغي، وكل هذا مُشاهَد وملاحظ، فان المادة التي قتلت ملايين البشر هي نفس المادة التي حولها العقل السليم إلى منفعة ملايين البشر ونفهم.
من هذا كله نستخلص أن القضية ليست في المادة، بل في من يستعملها؛ خيرًا كان أم شرًا، وأخيرًا؛ يجب على الإنسان ان يستعمل عقله في الخير ومنفعة بني جنسه، وألا يغيبه كذلك بمخدر أو فكر ضال يعذب به نفسه ومجتمعه وأمته والبشريه جمعاء، وليدرك أنه محاسب ولن يفلت من الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، هذه عدالة الله وحكمته سبحانه.
مقالات سابقة للكاتب