الحمد الله وكفى، وسلاماً على عباده الذين اصطفى؛ لكل خلق فضل، ولكل فضل مكانة، ومن بين هذه الأخلاق خلق التسامح والعفو، وهو ترك الانتصار للنفس، والتنازل عن بعض الحقوق؛ فالتسامح كلمة رائعة في اللفظ وفي المعنى والأثر، مُحَبَّبة إلى النفوس المؤمنة التقية، لكنَّها كغيرها من معالي الأمور ومحاسن الأخلاق لا تأتي في أوَّل الأمر بسهولة تامَّة، ولا تنقاد لمن طلَبَها براحة بالٍ، بل لا بُدَّ عند الإقدام عليها مِن مُجاهدةٍ للنفْس وتجرُّع شيء من الألم.
لذلك لا يقدم عليها إلا أهلُ البصائر المستنيرة، ولا يَعرف قيمتَها إلا أصحابُ القلوب النديَّة والنفوس الرضِيَّة، الذين يستشرفون أن يعيشوا حياتَهم مع مَنْ حولهم بارتياح وطمأنينة، ومحبة ووئام، ولذلك رتب الله تعالى عليها أجر عظيم، يقول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ وعن عبادة بن الصامت أنه قال: “يا نبي الله أي العمل أفضل؟ قال: “الإيمان بالله والتصديق به و الجهاد في سبيله” قال: أريد أهون من ذلك يا رسول الله قال: “السماحة والصبر”.
فالعفو والصفح والتسامح من أبواب الإحسان؛ ونيل الرحمة والغفران وجزيل الثواب؛ فالتسامحُ بلسَمٌ للرُّوح وراحة للجسم؛ بل أن أهل العفو هم الأقرب لتحقيق تقوى الله جل وعلا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ ولو تأمَّل الناس قليلاً في حِلم الله عزَّ وجلَّ على المخلوقين، وصَفحه عن زلاتهم وعفوه عنهم لرفعوا التسامحَ شعاراً، واتّخذوه مبدءًا.
فالمتسامحُ كالشجرة التي لا تبخلُ بالظلِّ حتى على من يَنوي تكسيرَ أغصانها، وقطفَ ثمارها، والنَّيل من قامتها الشمَّاء، لأنه من الصعب أن نتخيل الحياة بدون العفو، مثلها الصَّباحَ؛ هل نستطيع أن نتخيله من غير أمل؟ أو الأمومةَ من غير حنان؟ طبعا لايمكن ذلك، فالإنسان يعيش على الأمل والله يعطيه فيرضيه.
ومن سمات المتسامحِ أنه لا يَحقِد على إنسان، ولا يُبغضه، أو يَنال من شخصه، أو يجرِّح هيئتَه، لكنه ينبِز الفعل، وما شذَّ من السلوك، متعهِّداً أخاه بالنُّصح، مقترباً منه؛ لأنَّ القلوب إذا ما تباعدَت تنافَرَت، ومن ثَمَّ خسِرَ بعضُها محبةَ بعض.
فتأملوا معي إخوتي الكرام هذه القصة جيداً، لنرى فيها أجمل صور العفو والتسامح والصفح؛ فهذا الإمام أحمد بن حنبل، جلده المعتصم حتى التأم جلده على جرح، فلما مات المعتصم قرر الأطباء أنه لابد من إجراء عملية جراحية، ليس فيها بنج ولا مخدر. فما كان سوى القطع والآلام والدماء النازفة، فلما عرض على الأطباء وبدأ الطبيب ببضع جلده وأصابه من مس الموس، قال متأوهاً متألماً: رحم الله المعتصم اللهم اغفر للمعتصم!
لا يحمل الحقدَ مَن تعلو به الرتبُ
ولا ينال الـعـلا مَن طـبعه الغضبُ
وقد يرى ـ للأسف ـ بعض الناس أن العفو ذلٌّ ومهانة وإهانة المرء لنفسه أمام الناس، وأن العزة في الانتقام، وهذا والله ثم والله مجانبة الحقيقة؛ فالعز إنما هو في العفو، قال صلى الله عليه وسلم: فيما رواه الإمام مسلم (( وَمَا زَادَ اللهُ عَبداً بِعَفْوٍ إِلَّا عِزاً )) أي أن العفو لا يزيد صاحبه إلا عزاً ورفعةً وسموَّ وقدرٍ في الدنيا والآخرة.
ختاماً أقول: انشروا التسامح بينكم، وساهموا في تقريبه من قلوب الناس؛ فالسماحة عنوان ودليل على مجتمع متآلف ومتراحم ومتعاطف.
تـعـالـوا بنا نـطـوي الـحـديث الذي جرى
ولا ســـمــع الــواشــي بــذاك ولا درى
تــعـالـوا بـنـا حـتـى نـعـود إلـى الـرضـا
ومـــثـلـمـا كــان الــعـهــد لــن يـتـغـيـرا
ولا تــــذكـــروا الــــذي كــــان بــيــنـنـا
عـلى أنـه مـــا كـــان ذنـبـاً فــيـــذكـــرا
لــقــد طــال شـرح الـقـال والـقيل بيننا
ومــا طـال ذلـك الــشــرح إلا لـيــقـصرا
مــن الـيـوم تـاريـخ الــمــحــبــة بـيـنـنـا
عـفـا الله عــن ذلك الـعـتاب الذي جرى
فــكــم لـيـلـة بـتـنـا وكـــم بـات بـيـنـنـا
مـن الأنـس مـا يـنسى به طيب الكرى
أحاديث أحلى في النفوس من المني
وألـطـف مــن مــر الـنـسـيـم إذا سرى
نويفعة الصحفي
مشرفة العلوم الشرعية بمكتب تعليم خليص
مقالات سابقة للكاتب