قبل أيام كنا وكان حجاج بيت الله الحرام نرفع أكف الضراعة إلى الله الخالق أن يسهل لنا الحج وقد أكرمنا الله الرحيم بذلك لعلمه سبحانه بضعفنا وقلة حيلتنا، وها نحن قد رأينا الحجاج قد وقفوا بصعيد عرفات مهللين مكبرين حامدين الله.
نعم أيها الناس يا من قدمتم من كل أصقاع العالم متوجهين صوب قبلتكم مكة بيت الله الحرام وقد وقفتم حيث وقف الحبيب المصطفى ﷺ قبل أربعة عشر قرنا من الزمان معلنها مدوية أمام سمع العالم وبصره في خطبة حجة الوداع التي تصلح أن تكون دستورا ونبراسا ملخصا لكل دول العالم، نعم وقف وأعلنها في يقين نبي ملهم موحى إليه من ربه، في كلمات غاية في الفهم والبساطة يفهمها العامي والبرفسور على حد سواء، يفهما كل ذي عقل نقي طاهر من عفونات التهريج والجدل العقيم والفلسفة والسفسطة وحب الظهور والتشدق ولي الألسن بكلمات وعبارات رنانة، كي يظهروا للناس أنهم خطباء مفوهون برغم الكلام الأجوف الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يروي ظمأ العطاشى الذين ينشدون الخلاص في ظل هذا الدين الذي من اعتقده بحق ربح سعادة الدارين.
نعم وقف النبي المعلم الذي علم رعاة الغنم كيف تقاد الأمم بالحق والعدل والخير والتسامح والحب لكل البشر، بل لكل المخلوقات، وكيف لا وهو الذي قال في حب وحنان كما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به” ولو تأملنا هذا الحديث لوجدنا فيه دروسا عن الأخوة الحقه والحب العظيم لكل الناس، تأملوا لم يقل ﷺ من بات شبعان وأخوه المسلم إلى جنبه جائع بل قال وجاره أيا كان هذا الجار مسلم أو غير مسلم، فالجيرة بمعناها الشامل في الإسلام تعني كل جار، فما بالك بأخيك المسلم؟ الله أكبر حقا إنه دين الرحمة والعدل والمساواة، لذلك بلغ هذا الدين ما بلغ وما سوف يبلغه بقدرة قادر عليم.
نعم وقف ﷺ مخاطبا مائة وأربعة عشر ألفا الذين حضور حجة الوداع يقول لهم: ( إنّ دِمَاءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَليكُمْ حَرَامٌ إلى أنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في شَهْرِ كُمْ هَذَا في بَلَدِكُم هَذَا وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانةٌ فليؤُدِّها إلى مَنْ ائْتمَنَهُ عَلَيها) هنا يقف العالم بكل ما فيه من كبرياء وعنجهية وظلم للضعفاء والمضطهدين في دينهم وأنفسهم يقف هذا العالم الذي يرفع عقيرته بحقوق الإنسان يقف في صغار محني القامة امام هذا الدين العملاق الذي يحاكي السماك علوا.
ثم يردف النبي الامام ( أيها النّاسُ إن رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وإنّ أَبَاكُمْ واحِدٌ ، كُلكُّمْ لآدمَ وآدمُ من تُراب، إن أَكرمُكُمْ عندَ اللهِ أتْقَاكُمْ وليس لعربيّ فَضْلٌ على عجميّ إلاّ بالتّقْوىَ، أَلاَ هَلْ بلَّغْتُ، اللّهُمّ اشهد” وهنا ينسف دعوى الجاهلية وتفاخرها بالآباء والأجداد والتعالي بالأعراق والأنساب التي بسببها أبيد ملايين البشر من إثنيات وقوميات بحجة مخالفة اللون أو الجنس أو المذهب والمعتقد، وعنصرية بغيضة كالقوميات من عربية وفارسية كسروية وطورانية وآرية، ونقض وتفنيد الكذبة القائلة بنقاء عرق دون عرق ولون دون لون، فكيف يكون هذا الادعاء والأب واحد ومعروف، ولأجل ذلك جائت النظرية الداروينية ليمرروا بها اجندتهم العنصرية.
فهل فهم العالم المتحضر زعما وهو يمارس أبشع أنواع الهمجية والجاهلية الضاربة بجزورها وأطنابها في أعماق الجاهلية، إنه التهريج العالمي بالديمقراطية والمساواة، وحين تتعارض الديمقراطية مع المصالح يضعونها تحت أقدامهم ليتطاولوا بها لنيل مصالحهم ثم يتحدثون عن محمد ﷺ وصحبه، وأن الاسلام قام بحد السيف ورأينا كم من البشر ذبحوا ذبحًا في زمن التحضر والتقدم المزعوم في حربين كونيتين راح ضحيتهما 70 مليون إنسان في قرن هو أكثر القرون دموية عبر التاريخ لا لشيء إلا لفكرة جنونية نازية فاشية دارت في رؤس البعض فكادوا يفنوا البشرية بسببها وبسبب جنون العظمة عندهم.
اقرؤوا سيرة رسول الله قبل أن تتهموه، فتشوا في كتب التاريخ والسيرة كيف كان يعامل حتى من كان على غير ملته ومعتقده ﷺ.
فيا حجاج بيت الله الحرام عودوا إلى دياركم وتخلصوا بعد وقوفكم بعرفات من كل مظاهر الظلم والكبر والتعالي، وتعاونوا على بناء الإنسان أولا بكل ما أعطاه الله من حق وكرامة كإنسان، ثم اعملوا على البناء الذي يكون فيه سعادة دونيوية وأخروية فكل منكم قد لبس ثياب الحج البيض رمز النقاء والصفاء والذي يحاكي الكفن الذي سندرج فيه حين موتنا مدوا أيديكم وقلوبكم قبلها وتصافحوا وتعاهدوا بإقامة الإخاء و المحبة والعدل والتسامح والسلام.
أسأل الله أن يتقبل من الحجاج حجهم ومن الصائمين صومهم وصالح أعمالهم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
إبراهيم يحيى أبوليلى
مقالات سابقة للكاتب